Advertise here

مصارحة مؤلمة

29 تشرين الثاني 2019 16:56:00 - آخر تحديث: 04 أيلول 2020 13:57:41

أسوأ وضع في لبنان اليوم هو تمنّع المصارف عن تأمين طلبات المودعين على مستوى حاجاتهم. وهذا الوضع هو نتيجة توجّه المصارف إلى إقراض الدولة نسبةً مرتفعة من الودائع، وتعثّر مسيرة تشكيل حكومةٍ فعالة لاستقطاب الاقتراض الميسّر بموجب نتائج مؤتمر "سيدر"، والذي انعقد في نيسان 2018، وكان من المفترض توافر معوناته على مستوى  11,2 مليار دولار خلال بضع سنوات. وقد وجد المبعوث الفرنسي الذي أُوفد لتقويم الخطوات التصحيحية التي التزمناها، أن الخطوة الأساسية، وهي إصلاح سياسة الطاقة، ومعالجة عجز الكهرباء، لم تتخذ فحذَّرنا علناً من أن هذا الإهمال سيؤدي إلى انحسار المساعدات.

إن السبب الرئيسي للأزمة الحاضرة - ولنكن صادقين مع أنفسنا، يجب أن نعلم أن هذه الأزمة، أزمة فقدان حرية التحويل لسنوات، تسهم في تقزيم حجم الاقتصاد، وإبعاد المستثمرين عن لبنان، كما تُسهم في توسّع نطاق الفقر - والسبب هو سياسات وزراء الطاقة منذ عام 2008 وحتى اليوم. فهؤلاء الوزراء والنواب الذين وافقوا على إقرار موازنة الطاقة سنة بعد سنة هم المسؤولون عن تبخّر 51 مليار دولار كان في الإمكان أن تكون متوافرة في السوق لو أحسن الوزراء المعنيون خياراتهم. وأسهمَ في توسّع العجز وزير الاتصالات عام 2013، والذي عدّل الاتفاقات مع شركتَي خدمات الخليوي، بحيث حصر توظيف العمال في الشركتين بقرارات الوزير، وتالياً أسهمَ في زيادة طاقم العمل بعددٍ كبيرٍ من الموظفين من مناصري التيار الذي يمثّله. وتسببت هذه العملية بانحسار 400 مليون ليرة سنوياً من عائدات الدولة.

الدراسة الأولى عن برامج تطوير إنتاج الكهرباء وتوزيعها أنجزها عام 1996 البنك الدولي، وقد رأت الدراسة أن إصلاح القطاع يستوجب إنشاء هيئة ناظمةٍ للكهرباء، وتعيين مجلس إدارة مقتدرٍ من أصحاب كفاءات، واختيار شركة محاسبة دولية لإصدار ميزانيات حقيقية كل ستة أشهر، وإنجاز غرفةٍ للتحكم توجّه الكهرباء المنتَجة بين المناطق. وللتذكير، كان الوضع كذلك حتى عام 1975، لكن مجلس الإدارة كان يشمل مهندسينَ محترمين، وذوي نزاهةٍ مالية وفكرية.

الوزراء الذين تناسوا هذه التوصيات، أُبلغوا توصيات دراسةٍ قامت بها سيدة لبنانية، وقدّمتها إلى جامعة ستانفورد المشهورة عام 2011، بمنحةٍ من مؤسّسة محمد الصفدي لمعونات الطلاب والدراسات المتقدمة. وقد أوصت الدراسة بتحسين شبكة التوزيع، وإنشاء هيئة ناظمة، واعتماد الغاز للمحافظة على الصحة وتحقيق الوفر. ولم يؤخذ بأي من هذه التوصيات أيضاً.

كان الهمّ الوحيد للوزراء المعنيين هو الإصرار على استقلالية خياراتهم، فرفضوا المعونة من الصندوق الكويتي عام 2012، ورفضوا المعونة البالغة الأهمية من المانيا كدولة، وشركة "سيمنز" الكهربائية عام 2019. أما الوزيرة الجديدة التي كانت مساعدة للوزير سيزار أبي خليل فقد أبلغت البعثة الألمانية أن لبنان طوّر تقنيات إدارية، فغادر أعضاء هذه البعثة مع المستشارة الألمانية ميركل لبنان، وكلهم اقتناع بأن سياسة الكهرباء ستؤدي إلى تعجيز لبنان مالياً. وهذا ما حصل.

لو استمعنا إلى الكويتيين عام 2012، ولو راجعنا دراسة السيدة الحائزة منحة لإجراء الدراسة حول الكهرباء عام 2011، لكان لبنان حقّق وفراً يتخطى الـ 51 مليار دولار، وكان في الإمكان، بدءاً من تاريخ تنفيذ برنامج الصندوق الكويتي، تحقيق وفورات على حساب إنتاج الكهرباء تضيف إلى الوفر الذي كان تحقق من التجهيز والتفعيل منذ عام 2014، على الأقل 6 - 8 مليارات دولار من الاشتراكات، وكنا وفرنا كلفة استيراد المولدات الخاصة التي تبلغ طاقتها 1600 ميغاوات. ولا شك في أن كلفة استيرادها تجاوزت الملياري دولار، وهي تُسهم في ارتفاع كلفة مستوردات المازوت.

لقد اختار الوزراء والنواب من عام 2012 وحتى تاريخه التغاضي عن أضرار سياسة الكهرباء السيّئة، والتي حصرت القرارات بخيارات الوزراء المعنيين. ولعل أفضل مثالٍ على تحكّم الوزراء يظهر من تصريحات الوزيرة الحالية التي تعتبر أن تشكيل الهيئة الناظمة يستوجب انقضاء ثلاث سنوات، أي بالتأكيد، وبحسب التزامها السياسي، الوقت المطلوب لإنجاز مهمة العهد.

أيها السادة المتحكمون بقرارات المستقبل، وبعدما أسهمتم على نحو رئيسي في المشكلة القائمة، أي خسارة لبنان صفة الاقتصاد الحر، والمحافظة على حريات التبادل والصرف والتحويل، وتالياً جعلتم لبنان، اقتصادياً، ما هي عليه سوريا، فبوركت سياساتكم.

لبنان بخصائصه المصرفية اليوم لن يستقبل تحويلات رئيسية كما حصل في 2008- 2009 حينما حوّل اللبنانيون خلال الأزمة المالية العالمية التي طاولت أهم المصارف الدولية من "الكريدي سويس"، إلى "سيتي بنك"، إلى "بنك باركليز" الذي أنقذته دولة قطر بضخّ 7,5 مليارات جنيه في رأس ماله، مبلغ 24 مليار دولار ساعدت لبنان على تخطي عجز الميزان التجاري بتوفير فائضٍ على حساب ميزان المدفوعات لسنوات.

أصحاب المصارف، الذين أقرّوا سياسات مناقضة لقانون تقييد السحوبات من الإيداعات الأجنبية للعملاء، يدركون أن النظام الذي يتبعونه، والذي يتعدل يوماً بعد يوم، سيؤدي إلى انحلال دورهم بعد تبديد مدخرات اللبنانيين ممن مارسوا أعمالهم سنوات لتحقيق ادّخارات تساند حاجاتهم في سنيّ الشيخوخة.

المصرفيون مدعوون إلى زيادة رؤوس أموالهم بنسبة 20 في المئة ما بين نهاية هذه السنة ونهاية شهر حزيران 2020. بكلامٍ آخر، يوصي مصرف لبنان بزيادة تشكّل أربعة مليارات دولار، وإذا تحققت تساعد على تخفيف الضغط الحالي، إنما لا تحلّ المشكلة. ومصرفيون من أصحاب المؤسّسات الصغيرة نسبياً أعلنوا منذ الآن عجزهم عن زيادة رأس المال.

هل هناك حلولٌ للمشكلة القائمة والمتوسعة يوماً بعد يوم؟ نعم. هنالك حلول، تبدأ بتلزيم توسيع طاقة إنتاج الكهرباء، وتأمين توزيعها لشركة "سيمنز" الألمانية، والحصول على تسهيلات مالية لفترة 20 سنة، مقابل كلفة اقتراضية توازي اثنين في المئة سنوياً. لكن الألمان، أو غيرهم من أصحاب القدرات، سواءً أكانوا الكوريين، أم الفرنسيين والصينيين، لن يقبلوا بهذه المهمة ما لم يستطيعوا تشغيل المنشآت وأعمال الصيانة، وعندئذ لا حاجة إلى مصلحة كهرباء لبنان التي نخرها الفساد إلى حد أن طبقةً من بناء المصلحة حُوّل لتربية الدجاج والأرانب دون علم الإدارة بذلك. وبالتأكيد ثمّة حاجة إلى وزير يركّز اهتمامه على قضايا المياه التي تفوق في مساوئها ما شهدناه في مجال الكهرباء.

إن تأمين تمويل منشآت إنتاج الكهرباء وتشغيلها وتطويرها دون كلفةٍ مباشرة، وتحقيق فوائض على المداخيل مع بدء السنة الثالثة على الاتفاق، هو أمرٌ يُسهم في استعادة الثقة إلى حدٍ ما بالحكم اللبناني.

وإذا حصل هذا الأمر، يستعيد لبنان القدرة على اجتذاب الاستثمار بدءاً من حقول إنتاج الكهرباء بالألواح التي تختزن الطاقة من الشمس، وتحفظها لتأمين الاستهلاك في ما بعد. ويضاف إلى ذلك تطوير وتشغيل مرفأ طرابلس، ومطار الرئيس رينيه معوض الذي خسرَ حياته لإصراره على محافظة الرئيس اللبناني على حرية القرار في مجال المصلحة العامة.

قد تبدو المهمات المعدّدة أعلاه شبه مستحيلة، والواقع هو أن هذه الخطوات هي الوحيدة القادرة على استعادة الثقة بلبنان الذي حُكم بشكلٍ إقطاعي خلال السنوات الثلاث المنصرمة.