Advertise here

د. أنطون مسرّه يكتب لـ"الأنباء": لغة جديدة للعدالة... القضاء حين يناقض ذاته ويمتنع عن الحكم!

29 تشرين الثاني 2019 10:24:00 - آخر تحديث: 29 تشرين الثاني 2019 19:24:54

من الضروري الانكباب على حالاتٍ واقعيةٍ في القضاء اللبناني اليوم، بدلاً من الاسترسال في عمومياتٍ حول واقع القضاء واستقلاليته وعدالته. 

سعيتُ بعد سنواتٍ من الممارسة والمعاناة إلى تجنّب الاطّلاع على قرارات وأحكام. لكن عندما اطّلعتُ على القرار رقم 23/2019 تاريخ 12/9/2019 للمجلس الدستوري المتعلق بالقانون 144، تاريخ 31/7/2019، حول الموازنة والموازنات الملحقة لعام 2019، وجدتُ أن هذا القرار يناقض كل المعايير الاجتهادية الدولية، وكل ما يتعلّمه طلاب حقوق في كليات الحقوق. القانونيون هم اليوم في مواجهة لغة قضائية جديدة Novlangue، حسب وصف جورج أورويل  .George Orwell يتعلق الموضوع بالموازنة والضرائب على معاشات تقاعد القضاة، وبالتعيينات في الإدارات العامة، ولا أدخل في تفسيرات وتعليقات، بل أبرز مسألتين جوهريتين: 

1 . تناقض بين الحيثيات والفقرة الحكمية. يرد في الحيثيات حرفياً: 
"حيث أن إجازة الدستور اللبناني في المواد 81، 82، 83 منه للسلطتين الإجرائية والتشريعية فرضَ وجباية الضرائب العمومية لا يعني إباحة خرق مبدأ المساواة بين اللبنانيين (...) فتكون التعديلات التي أدخلتها المادة 23 المشار إليها على المادة 85 من قانون ضريبة الدخل، غير مؤتلفة مع أحكام الدستور". 

أما في الفقرة الحكمية فيرد النقيض تماماً: 
"10. ردّ الطعن الرامي إلى إبطال المواد 23، 47، 48 استناداً إلى التعليل الوارد في متن القرار". 
التناقض معلن، وواضح، وصريح، ومؤكد، ولا يندرج إطلاقاً في الخطأ المادي، أو الطباعي. 
صدرت عالمياً مجلدات حول الصياغة التشريعية. وعُقدت مؤتمرات عالمية حول صياغة الأحكام الدستورية، وبخاصةً مؤتمر باريس لجمعية المحاكم والمجالس الدستورية الفرنكوفونية في 15-16 تشرين الثاني، 2017، وشاركتُ فيه، وصدرت وقائعه في كتاب. هل نُدرج النمط الجديد اللبناني في صياغة الأحكام ضمن أعمال لجنة البندقية للعدالة الدستورية، وندخله في الاجتهادات العالمية؟ 

يحقّ للنواب الـ 11 الذين تقدموا بالطعن أمام المجلس الدستوري المطالبة بقرار لاستيضاح العلاقة بين المضمون والفقرة الحكمية. وتعني هذه القضية كل أعضاء السلك القضائي.

2 . الامتناع عن الحكم أصبحت تسميته، لبنانياً، بعد اليوم "عدم التصدي"! في البحث (أو بالأحرى عدم البحث) في مدى دستورية الفقرة الأخيرة من المادة 80، والمتعلقة بحفظ حق الناجحين في المباريات والامتحانات التي أجراها مجلس الخدمة المدنية بناءً على قرار مجلس الوزراء، وأُعلنت نتائجها حسب الأصول بتعيينهم في الإدارات العامة، يرد في حيثيات القرار ما يلي:
"حيث أن الفقرة الأخيرة من المادة 80، وعلى الرغم من عدم انسجامها مع الدستور، تثير موضوعاً شائكاً مرتبطاً، ولو بصورة غير مباشرة، بتفسير المادة 95 من الدستور، 
"وحيث أن رئيس الجمهورية أرسلَ إلى المجلس النيابي طلباً يرمي إلى تفسير المادة 95 من الدستور، 
"وحيث أن المجلس النيابي أصبح واضعاً يده على الموضوع (حدّد موعد جلسة تفسير المادة 95 في 17 تشرين الأول 2019)،
"لذلك لم يقضِ المجلس الدستوري بإبطال الفقرة الأخيرة من المادة 80".

يرد في الفقرة الحكمية في القرار: 

"13: عدم التصدي لدستورية المادة 80 استناداً للتعليل الوارد أعلاه". 
هل أصبح "عدم التصدي" مفهوماً جديداً في علم الحقوق، والقضاء، والعدالة في لبنان؟ هل هو تسمية جديدة لبنانية للامتناع عن الحكم؟ وهل توجد "قضايا شائكة" يجوز للقضاء تجنّبها، و"عدم التصدي" لها، وترك مساومتها في التنافس السياسي؟ وهل لم يعد المجلس الدستوري السلطة القضائية العليا في تقرير دستورية القوانين؟ وهل أصبح القضاء الدستوري بعد اليوم في لبنان خاضعاً للسلطتين التشريعية والتنفيذية؟ وهل يجوز بعد اليوم للقضاء في لبنان "عدم التصدي" "للقضايا الشائكة"، في حين يُطالب الناس بمكافحة الفساد في أعلى القمة؟ 

في مجتمعٍ حقوقي يعالج المواطنون فيه قضاياهم اليومية البسيطة بالحوار والتفاوض، ولا تُعرض أساساً على القضاء إلّا "القضايا الشائكة" دفاعاً عن حقوقٍ أساسية في الحريات، والمساواة، والكرامة، والتوازن في العلاقات التعاقدية والحياة العامة...هل أصبح القضاء اللبناني غير معني "بالقضايا الشائكة"؟ وهل يعتمد بعد اليوم "عدم التصدي"؟
 
تعني عبارة تصدي في القاموس: "جابه، واجه، تحدي، قاوم، تعرض، عارض، اعترض، اهتمّ بالشيء، تطرق إلى، عالج" (د. روحي بعلبكي، المورد الثلاثي، دار العلم للملايين، 2004). وتعني:  "تعرّض للأمر" (المنجد الأبجدي، دار المشرق). وتعني: "وصدّه عن الأمر يصدّه صداً منعهُ وحَرفهُ عنه"، و"صد يصد صداً: استغربَ ضحكاً... وصدّ ويصُد: ضجّ وعجّ (لسان العرب لابن منظور). هل أصبحت بعد اليوم القضايا المسماة "شائكة" ممنوعة على القضاء؟