Advertise here

للتاريخ... تاريخه أيضاً

27 تشرين الثاني 2019 11:07:45

في "مدينة الله"، التي تصوّرها، رأى أغسطينوس: "إن روما ما كانت قط جمهورية حقيقية، لأنها ما عرفتْ العدالة الصحيحة". وبما أن الجمهورية تخصّ الشعب بأسره فلا قيام لها، إلّا إذا سرى فيها الصلاح، وحكمت على سلوكات أهلها الحكمة. وأما الشعب فلا يكون شعباً إذا لم يكن حقاً جماعة ترتكز على احترام القانون والمصلحة المشتركة، لا "جماعة طارئة وليدة الصدفة".

 وأما الدولة التي لا تحقق الإنصاف والعدالة لشعبها فهي لا تختلف في شيء عن قطّاع الطرق. ففقدان الحكم العادل يستبيح البلاد، ويحوّل الدولة إلى مغارة لصوص: رئيسها شرير، وشعبويته فاسدة. 

شكّك النائب كمال جنبلاط في موقف لبنان الرسمي، واعتبره رمادياً ومشجعاً لسياسة الأحلاف في المنطقة في زمن "حلف بغداد" الشهير، وذلك بعدما حاول سفير العراق في لبنان السيد أحمد الراوي بتاريخ 24/3/1954،  وفي مؤتمره الصحفي حول موقف العراق من الحلف التركي- الباكستاني.

وذلك أن النائب كمال جنبلاط قد رأى أن السياسة الأنكلو- أميركية قد نجحت لأنها جعلته من ثمار تدخلها المستمر منذ سنة 1947 بين الهند وباكستان.

وعندما تحرّك الطلاب القوميون العرب في الجامعة الأميركية، وأصدروا بياناً في 25/ 3/ 1954، والذي ندّدوا فيه بالحلف، واعتبروا بأنه لا يخدم إلّا مصالح إسرائيل والاستعمار الغربي، وعندما دعت "جمعية العروة الوثقى" في الجامعة للتظاهر بتاريخ 27/ 3/ 1945، وقف النائب كمال جنبلاط إلى جانبها مؤيداً للتظاهر، على الرغم من نداءات الحكومة لمنع المظاهرة.

وبالفعل تجمهر الطلاب أمام باب الجامعة الأميركية المقفل من قِبل رجال الأمن، وأقدموا على فتح الباب عنوة، والاندفاع خارج حرم الجامعة. فوقع الصدام، وأسفر عن استشهاد  الطالب حسان أبو إسماعيل من الحزب الاشتراكي، وسقط معه عدد من الجرحى بلغوا الأربعين. كما اعتُقل من الطلاب 30 طالباً. ثم صدر بيانٌ من الحكومة اعتبر أن التدابير قد اتُّخذت للمحافظة على الأمن، وأن القضاء تسلّم التحقيق لتحديد المسؤوليات. 

وأمام توتّر الأوضاع في البلاد بين الحكومة وعدد من النواب الذين طالبوا بإسقاط الحكومة، عُقدت جلسة طارئة واستثنائية للحكومة في مجلس النواب، حيث طالب النائب أحمد الأسعد استجوابها. وكذلك تقدّم النائب كمال جنبلاط بمساءلتها. أوضحت الحكومة موقفها، وأتُّخذ قرار بإقفال الجامعة الأميركية ريثما تهدأ الخواطر.

وصف النائب أحمد الأسعد الحادث بأنه "مجزرة الطلاب". وطالب النائب حميد فرنجية بلجنة تحقيق عليا تخوّلها صلاحياتها التحقيق حتى مع "رجال التحقيق أنفسهم" الذين حرّفوا التحقيق، وأخفوا الحقائق، بناءً لإرادة الحكومة.

وأعطى رئيس المجلس الكلمة للنائب كمال جنبلاط الذي ردّ على بيان الحكومة بكلمةٍ ذهبت للتاريخ، وفاقت المتوقع، وقال إنه لم يرَ في حياته السياسية ما رآه من وزير الداخلية ورئيس الوزراء، رجلاً أرسل "الدرك، دركهُ"، فقتلوا الطلاب ورفسوهم بأرجلهم، وكسروا باب الجامعة، ثم يقولون: " لسنا مسؤولين". وقال أيضاً: "أنتم كالرجل الذي أرسل السيّد المسيح إلى الموت وغسلَ يديه... أنتم بيلاطيسيون". وقال "إن القصد من التظاهر كان تأييد الحركات الشعبية، وتحرير الشعوب". وهاجم الحكومة متهماً إياها بالطغيان والإحتقار والإجرام. تقدّم رئيس الحكومة، وضرب بكلتا يديه على الطاولة، فطار كوب الماء من يد نائب الشعب، كمال جنبلاط، أمام وجهه، ووقف حضرات النواب بين رئيس الحكومة والنائب، فرُفعت الجلسة.
 وفي الجلسة المنعقدة في1/ 4/ 1954، طالب بعض النواب المجتمعين، باعتذار النائب كمال جنبلاط، وبصيغة النائب نعيم مغبغب، أن يقول: "فقدتُ أعصابي" ويعتذر.

وأعطُيت الكلمة للنائب كمال جنبلاط، فكان كلامه التاريخي للتاريخ، وكان موقفه التاريخي للتاريخ أيضاً. وشكر النواب على مداخلاتهم، أكانت معه أم عليه، واعتبر أن ما قام به كان للدفاع عن حقوق الشعب، وعن مبدأ اللا- عنف الذي يدين به. وأكّد أنه لا يوجد بينه وبين رئيس الحكومة أي شيء شخصي، بل هو خلاف سياسي لا أكثر، وأن ما أثاره هو ما رآه في "... جنازة فتى كنا نربيه كما يربي الوالد ولده. ورئيس الحزب هو بمثابة الأب لأعضائه... وهناك أمران لا يستطيع الرجل أن يسكت عنهما، وأن لا يثور في سبيلهما، وهما: قتلُ النساء، وقتلُ الأولاد والفتيان. فإن ثرتُ، فإنني لم أفقد أعصابي. لقد حصل ذلك بملء وعيي لما رأيته من سفك الدماء والتعذيب والاعتقال. ولو أنني خسرت ولدي الوحيد لَما حزنتُ كما حزنتُ على الشهيد حسان أبو اسماعيل... إنني أرحّب بلوم المجلس. وأشكر جميع الأعضاء الذين سيقترعون ضدي، وأكون سعيداً جداً إذا كان هذا اللوم سيزيل ما بقي بالأذهان من أن هناك مشكلة شخصية بيني وبين رئيس الحكومة، لأنني لم أقصد بعملي الشخص، بل كرئيس وزراء، وضميري مرتاح. وإنني شخصياً أتبنّى هذا الاقتراح بلومي. ولكنني آسف، إنني لا أستطيع الاعتذار".

وفي حفل التأبين قال كمال جنبلاط: "... هذه الدماء دماؤنا.  وكما قلتَ أنتَ يا حسان أبو اسماعيل: "أنا للحرية. أنا للوطن. أنا للنضال. أنا للاشتراكية. أنا ضد الاستعمار، وضد التحالف الذي سيجعل من أبناء البلدان عبيداً". كما هاجم، "من يسعون إلى الزعامة على دماء الشهداء".

وأنهى النائب كمال جنبلاط كلامه بالوعد بمتابعة النضال إلى أن يسقط "مسخ الديمقراطية". وطالب أن يُلفّ جثمان الطالب بالعلم اللبناني قبل دفنه..." لأن الاحتفال احتفال لبنان".

للتاريخ أيضا تاريخه. والشيء بالشيء يذكر. ودماء ثورة 17 تشرين الثاني 2019، ودماء الشهيد علاء أبو فخر،  إنما هي من نسيج دماء الشهيد حسان أبو إسماعيل. وموقف وليد جنبلاط اليوم إنما هو من نسيج كمال جنبلاط بالأمس.