Advertise here

زوبعة السياسة في فنجان الإقتصاد...

25 تشرين الثاني 2019 09:24:43 - آخر تحديث: 25 تشرين الثاني 2019 09:24:44

مرة أخرى، يجد لبنان نفسه مرغما على اللجوء إلى الخارج بعدما تحوّل ورقة مطروحة على طاولة التفاوض العالمية. الأزمات في الداخل تشتدّ أكثر فأكثر، ولا أفق لها حتى اليوم رغم إنقضاء 40 يوما على إنطلاق الثورة. وما أفضل من مبادرات تتولاها فرنسا لجمع التناقضات، بحثا عن تسويات لدعم لبنان في أزمته المتفجرة سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا وشعبيا...

مرة أخرى، يجد لبنان نفسه أمام أزمة ولكن غير مسبوقة. أزمة تبحث عن حلول لعقد تتشابك تباعا لتقفل الأفق السياسية، وتُترجم مشكلات متفرعة في الإقتصاد المأزوم، ولتفكّك شبكات الأمان التي لطالما جرى التنبيه منها، لأنها صمّام الأمان الأساس وإحدى حلقات سلسلة الثقة المفقودة بمؤسسات الدولة نتيجة إنحرافات قادت السلطة السياسية إلى مطارح أخرى، لا تتلاقى فيها مع تطلعات المجتمع ولا مع آماله... فثار رفضا لسياسات القهر والإفقار والتجويع.

في باريس اليوم، همّ وحيد يدور حول كيفية إثارة إهتمام دول القرار، في واشنطن ولندن وما بعدهما، من أجل منع الإنهيار الشامل بعدما تداخلت العوامل المحلية بالإقليمي منها، وبعدما ضرب التعنّت مواقف الأفرقاء المؤثرين، ليُدخل لبنان في دائرة الصراع الأميركي-الإيراني مباشرة. لكن، ما من أزمة لا حلّ لها، وما من تسوية عاجزة عن ضبط المفاعيل السلبية، وخصوصا إن كانت الإنعكاسات تطول مجالات حفظتها الثقة لأعوام بعيداً من دوائر الشكوك والقلق. 

والمقصود بالإيحاء هو القطاع النقدي والمصرفي الذي اهتزّ منذ نحو شهرين على وقع الأزمة السياسية، ولكن بعد حملة إفتراء وهجمة مبرمجة إستهدفته منذ أكثر من عام، على خلفية عدم صوابية سياسات التثبيت النقدي والهندسات المالية التي اتُهمت المصارف بأرباحها. لكن، هل يعتبر أصحاب تلك الهجمات أن تحرير سعر الصرف الذي دفع الدولار إلى عتبة الـ1900 ليرة، هو صحّي للإقتصاد؟ وهل يمنحه ما يتلاءم مع مناعته؟ كيف يبرر هؤلاء تاليا، ما تفرّع من أزمات هزّت صمود قطاعات حيوية مثل: المشتقات النفطية وأزمة البنزين التي ضبطها مؤقتا قرار "تشليح" الشركات عمليات الإستيراد، الأدوية والمستشفيات التي لوّحت بأزمة إنقطاع طالت أيضا المسلتزمات الطبية لزوم الحالات الطارئة والمستعصية، القمح وتحديدا الخبز الذي ارتهنت ربطته بعديد الأرغفة بعد تثبيت ثمنها، ودورة التبادل التجاري التي تراجعت بنسبة 80% في الطلب وحجم التداول؟

لم تكن المصارف تتخيّل يوما أنها ستقف أمام حجم طلب يفوق قدرتها، كما قدرة أي قطاع في أي دولة، في ظل تشنج سياسي يعكّر صفو المناخ الداخلي. إجراءات قاسية وغير مفرملة أحدثت صدمة لدى المودعين الخائفين على مدخرات بالليرة أو بالدولار، بعد عمليات "تهريب" قيل إنها طالت نحو 7 مليارات دولار، فضلا عن عودة السوق السوداء لصيرفة رفعت سعر مبيع الدولار الأميركي بنحو 20% قياسا بالسعر الرسمي. وجاء قرار "رفع الرسملة" بطلب من مصرف لبنان مستهدفا التصويب وإعادة المليارات، وهو الحل المستعصي حتى اليوم، لكنه المدخل الأول لحل أزمة السيولة!

تثبيت سعر الصرف ليس هو سبب الأزمة، ولا إجراءات المصارف هي الدافع لقرار الـCapital Control المطبّق دون إعلان رسمي. بل هما ضحية الصراع السياسي الذي دفع نصف اللبنانيين إلى الشارع منذ نحو 40 يوما، من دون أن يغفل دفعهم جميعا إلى قعر الفقر بعدما وقفوا طويلا عند حافته. هكذا توقع البنك الدولي في قراءة لواقع لا يحتاج إلى تحليلات. فرص العمل شبه معدومة، وإن قاوم بعضها، فبنصف راتب أو بتأخير يتهدّده شلل يضرب دورة الإنتاج والإستهلاك. تمويل القطاعات يعاني مشكلة حادة بسبب إجراءات مصرفية فرملت السحوبات وجمّدت التحاويل والسحب... مع كل ما يتفرّع عنها من موجبات لقفل ديون أو تسديد إقساط أو دفعات لزوم الإستيراد.

"زوبعة" السياسة أخرجت الإقتصاد من "الفنجان"، وأطلقت العنان لمارد الشكّ والخوف بعد فقدان الثقة. هي مشاعر لا تحتاج إلى أقوال مطمئنة بل إلى أفعال تترجم الإيجابيات على شكل صدمة مفاجئة. فهل تستفيق السلطة وتبادر إلى تحرير العِقَد من عقالها؟ الوضع المأزوم والمرشح إلى المزيد، يحتاج في الداخل إلى حركة حقيقية، وفي الخارج، تبقى التسويات كفيلة بتلبية تطلعات الثوار لا طموحات الراغبين في المزيد من التسلّط والإفادة من ثروات البلاد... إن بقي منها شيء على "قيد الحياة"!

إن احتاج الواقع إلى الخارج، فليكن، سواء عبر فرنسا الحنون أو من خلال برامج إنقاذ دولية تفتح الباب على طاقات فرج قادرة على تيسير دفق نقدي يراوح ما بين 10 و15 مليار دولار لحلّ أزمة السيولة. في المقابل، يستحسن درس الشروط السياسية، وهذا ما كان يجب تفاديه لئلا يقع لبنان تحت ضغط الحلّ، لأن التفاوض قبل وقوع الإنهيار شيء، والتفاوض في فوضى الإنهيار شيء آخر...

ليس مخيفا ما تحمله الأيام المقبلة بمقدار ما هو مؤلم شعبيا وإجتماعيا. فالفقر سيدق باب اللبنانيين، وسيفتح الباب على خلل في شبكات الأمان الإجتماعي، وتاليا تفشي الجريمة المقنعة والحقيقية: جرائم سرقة وقتل لتوفير لقمة العيش. صورة قاتمة يبددها سريعا قرار بوقف حكم تنفيذ الإعدام.

بالأمس، همس وزير سابق بالقول إن واشنطن تدخلت "ومنعت الإنهيار". كلام وازن يحتاج إلى ترجمات ومبادرات قادرة على ترميم الثقة بلبنان... وهذا يحتاج إلى "حكومة مستقلّين" تعمل بسرعة للإنقاذ، وتمنح السياسيين فترات سماح طويلة الأمد ومفتوحة على تنازلات عن المكاسب الخاصة لمصلحة وطن لا يستحق فقدان موقعه على خريطة العالم.

(*) Arab Economic News