اندلعت منذ أسبوع “انتفاضة البنزين” في إيران بسبب قرار رفع سعر الوقود الذي كان الشرارة لتأجيج الغضب الشعبي وتعميق الهوة بين النظام القائم منذ أربعة عقود وبين مكونات الشعب الإيراني وغالبية طبقاته الاجتماعية، وعلى امتداد كبير من جغرافيا البلاد. لكن قائد العمليات في الباسيج (منظمة التعبئة الشعبية للحرس الثوري الإيراني) العميد سالار أبنوش يصر على اعتبار الاحتجاجات بمثابة “حرب عالمية شعواء ضد النظام والثورة”.
وهكذا عبر الإنكار والقمع المفرط تحت عنوان التصدي للمتآمرين، تحاول دوائر الحكم إخماد الانتفاضة وهي الأوسع والأعمق بالقياس لاحتجاجات إيران منذ عقد من الزمن. مع قطع الإنترنت تسعى السلطات بكل قواها لوضع حد لموجات الاعتراض والانتفاض، خاصة أن المشروع الإيراني “الإقليمي الإمبراطوري” اهتز أخيرا من بغداد إلى بيروت في موازاة الأزمة البنيوية للمنظومة الحاكمة في طهران.
ويبدو الصراع مفتوحاً ما بين الرهان على إنهاء الانتفاضات أو احتوائها، وتصميم مكونات شعب إيران وشعوب “دائرة النفوذ الإيراني” على أولوياتها الوطنية واستعادة دولها وإعادة بنائها.
في مقاربته للتاريخ ولعلم العمران الاجتماعي، اعتبر ابن خلدون أن “للدولة أعمارا طبيعية كما للأشخاص” وينطبق ذلك على الأنظمة السياسية وأدوارها. وغالبا ما تكون الأنظمة الشمولية قصيرة العمر بالقياس للأنظمة الديمقراطية.
فالنظام النازي لم يصمد إلا اثني عشر عاماً والنظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي سقط على عتبة السنة السبعين لقيامه.
والأرجح أننا سنكون خلال الحقبة القادمة أمام منعطف مصيري في تاريخ نظام الولي الفقيه الذي أرساه الإمام الخميني. وسيحاول القيّمون عليه السعي لإنقاذه عبر إخضاع الداخل و”تعبئته” والرد على التحديات الخارجية بالرغم من إشارات قرب انتهاء صلاحية هذا النظام.
لكن في مقارنة ميدانية سوسيولوجية للانتفاضات التي تهز إيران منذ عشر سنوات، يلاحظ جان بيار بيران، الكاتب والصحافي الفرنسي الخبير بالشأن الإيراني أنه في “الثورة الخضراء” في العام 2009 للاحتجاج على تزوير انتخابات التمديد لأحمدي نجاد، شاركت الطبقة الوسطى في بعض المدن الكبرى، أما في انتفاضة 2017 – 2018 فقد شاركت الطبقات الشعبية من دون الطبقة الوسطى وفي مدن صغيرة والقليل من المدن الكبرى.
أما “انتفاضة البنزين” في نوفمبر 2019 التي شملت مئة وأربعين مدينة حسب أوساط المحتجين ومئة مدينة حسب السلطات، فقد شاركت بها الطبقتان الشعبية والمتوسطة والطلاب وكانت مسرحها مدن كبرى ومتوسطة وصغيرة ولم تقتصر على مناطق القوميات من العرب والأكراد والبلوش، بل وصلت إلى شيراز عاصمة محافظة فارس وطهران وغيرها.
من ناحية التسلسل الزمني لتطور الوضع، أدت العقوبات الأميركية وقرار عدم تمديد السماح بالتعامل النفطي مع طهران بدءا من مايو الماضي، إلى مشاكل كبيرة في الموازنة وارتفاع التضخم والأسعار وزيادة البطالة. في 16 أكتوبر الماضي دعا الرئيس حسن روحاني إلى إجراء استفتاء شعبي عام لـ”تحديد مسار السياسات العامة للبلاد”.
ويومها قالها روحاني من دون مواربة “إنه لا يتعين على إيران أن تنأى بنفسها عن العالم الخارجي ويجب عليها أن تأخذ في الاعتبار حقائق القرن الحادي والعشرين”. وهذا كان يعني عملياً اعترافه بتأثير العقوبات الأميركية ودعوة مبطنة لقبول عرض التفاوض مع إدارة ترامب.
لكن تلك القراءة سقطت أمام مبدأ “الاقتصاد المقاوم” وسياسة المرشد، الذي لا يريد بتاتا العودة إلى المفاوضات مع الولايات المتحدة والصمود حتى موعد الانتخابات الرئاسية القادمة في واشنطن.
وبالفعل كان روحاني يستشعر خطورة الوضع وصعوبة مهمته لأن إيران كانت تتمكن من بيع النفط والاستمرار في “مشروعها الثوري” بالرغم من “الفيلم الهوليوودي الطويل من التجاذب بين واشنطن وطهران”.
أما اليوم، فهي لا تبيع إلا كمية تقارب 200 ألف برميل يوميا فقط بعد أن كانت تبيع قبل العقوبات 2.3 مليون برميل. لذلك اعترف الرئيس روحاني في 12 نوفمبر “إنه من الصعوبة بمكان إدارة شؤون البلاد في ظل هذه العقوبات”.
وأعلن روحاني بعدها أنه سيصدر قرارات بزيادة الضرائب على المواطنين ورفع أسعار البنزين وباقي المحروقات، لتعويض عجز الموازنة. وتبعاً لذلك صدر في 15 نوفمبر قرار رفع أسعار المحروقات بنسبة 300 بالمئة.
وبعد ساعات على ذلك خرجت المظاهرات تنديداً وغضباً ولا تزال مستمرة على إيقاعات مختلفة، بالرغم من ادعاء السلطات إحباطها في مهدها. وزاد الأمور تفاقماً تأييد المرشد خامنئي قرار الحكومة برفع أسعار البنزين وقوله “إنه لا يفهم في هذه الأمور الاقتصادية”، وبالتالي ترك الحكومة في مواجهة المجتمع.
من هنا يصح التساؤل أنه في مواجهة “استراتيجية أقصى الضغوط والعقوبات” المتبعة من واشنطن، لماذا لم تتخذ القيادة الإيرانية خطوات احترازية واستباقية في مواجهة “كرة النار”؟ وفي هذا السياق، يقول نائب إيراني سابق إنه “كما في مواجهة انتفاضة 2017 – 2018، ربما تورطت بعض أجنحة النظام باستفزازات وعمليات إحراق مقرات وتخريب بشكل إرادي من أجل تبرير سحق الانتفاضة وتدميرها”. وبغض النظر عن صحة هذا الافتراض أو هذه المعلومات عن تنظيم القمع، فإن قيام المحتجين بصب جام غضبهم على المرشد وهتاف بعضهم “الموت لخامنئي” يدل على فشل محاولة تحميل المسؤولية لروحاني.
كل ذلك يعني عدم قدرة النظام على تمرير لعبة توزيع الأدوار داخله، خاصة مع فقدان سيطرته على الفضاء العام، لأنه فقد منذ ديسمبر 2017 القدرة على امتصاص الغضب داخل مؤسساته وتذويبه لاحقا.
في مواجهة الحجم غير المسبوق للانتفاضة وزخمها وسقوط العشرات من الضحايا، يمكن استنتاج بدء ظهور نتائج العقوبات الأميركية داخل إيران ومحورها، وأن طروحات الحكم في إيران بدأت تتساقط على محك الممارسة العملية، إذ أن ذرائع “المشروعية”
و”الثورة” و”الحق الإلهي والديني” لم تعد صالحة لإطعام الشعوب والتنمية والرخاء. وانقلب الأمر اليوم للدفاع عن المربعات الأخيرة تحت عنوان حماية الأمن القومي والتلويح بالحزام الناسف وتفجير الإقليم منعاً للسقوط ومن أجل تخويف وابتزاز الجوار والعالم، أو استدراج العروض مع الصين وروسيا وغيرهما.
أياً تكن خلاصات الانتفاضة الحالية في إيران، فإن الصورة تبدو قاتمة للمنظومة الحاكمة وأذرعها الإقليمية. ومع بداية عصر النهوض الوطني لم يعد هناك من أفق لمشروع العودة إلى الإمبراطوريات السالفة.