Advertise here

"الأنباء" تستذكر ميشال إدّه... وهذا ما كتبه عن كمال جنبلاط

21 تشرين الثاني 2019 13:03:13

بعد أسبوعين على غيابه، تستذكر جريدة "الأنباء" الالكترونية الوزير الراحل ميشال إدّه، حيث تنشر له مقالاً سبق وكتبه على صفحاتها في كانون الأول 2003، بعنوان "كمال جنبلاط: الديموقراطية والعروبة". وهذا ما جاء فيه:

إن من يتسنى له أن يشارك في إحياء ذكرى ميلاد كمال جنبلاط كمن يفتح نافذةً لدخول هواء نظيف ينعش الثقة بهذا الوطن، ويجدّد الأمل والرجاء بتجدّده.

ذلك أن حضور تجربة هذه العلامة التاريخية الفارقة في تاريخ لبنان يفيض عن حيّز الذكرى وشروطها الخاصة ليرتسم ضميراً وأفقاً في هذا التاريخ.

أما التذكار فلا يضيره بشيء ما قد ينطوي عليه من حنين. فمَن وقف حياته على كفاحيةٍ فريدة النضج والغني من أجل التغيير بالمعرفة والحكمة والفكر، والسياسة الخلاقة غير المنفصلة عن الأخلاق، ومَن على درب هذه الكفاحية لم يكن يتعلم فيما كان يعلم إنما يقلّل حاضراً متغلباً في ذاكرة الأحياء على غيابه.

أما الحياة فتأخذ على مجمل الجد بالطبع ذلك الحنين إلى مَن وما افتقدناه. لكنها تتمثله بأن تعيد صياغته في شروط مختلفة، شوقاً وليداً متجدداً إلى ذلك الغد الغناء الذي طالما رنا إليه حلم كمال جنبلاط.

بقامةٍ رشيقة سامقةٍ لكأنها السرو، راسخةٍ لكأنها الأرز العالي، كان هذا الحلم يقي السماء من الانحناء، فيما هو كحبة القمح يتغلغل في شرايين هذه الأرض ليصنع نسغها ونسيجها وأريجها وتلاوينها. ويمضي في كثافته على أطراف كلماته واختباراته ومكابدته واثقاً من سنبلة المسيح.

إن لتلك الشرارة الأولى، التي أطلقتها نظرته المختلفة إلى وقائع لبنان العامة، قصةً ربما كان من المستحسن الإلحاح إليها من أجل تبيُّن كل تلك الإشراقة المستمرة التي من دون ضوئها ينغلق فهم تاريخ لبنان وسرّه، إلّا بالنسبة لمن يستخف، أو يكفر، أصلاً بهذا التاريخ وجغرافيته.

ميشال أسمر، مؤسّس "الندوة اللبنانية"، وفي معرض تسويغه اختيار المحاضرة أسلوباً من خلاله تقدم الشخصية المعينة وجهة نظرها من على منبر هذه الندوة، كتبَ يقول: "كان المطلوب أن يقوم بين المحاضِر وسامعيه تفاعلٌ حي، بكلمة: أن "يتولّد التيار". لكأن المحاضرة ضربٌ من التماس: فإما أن تومض الومضة، وإما لا وميض".

لست بفيلسوف بالطبع كي أتمكن من تبُّين تلك العلاقة الديالكتيكية الكامنة بين الصدفة والضرورة، والتي حملت هذه "الندوة اللبنانية" على أن تختار - من أجل أن تومض الومضة - كمال جنبلاط دون سواه، أول محاضرٍ من على منبرها الوليد، مفتتحةً عمرها ونشاطاتها بمحاضرته التي آثر أن يتحدث فيها في 18 تشرين الثاني 1946 عن الديموقراطية الجديدة، تحت العنوان الرسمي الذي شاءته "الندوة": "رسالتي كنائب".

من يومها ومضت الومضة حقاً، ولم تنطفىء منذ إذ ذاك. وبدأ اللبنانيون ينتبهون إلى خطابٍ مختلف في الفكر المعرفي والسياسي الموجّه لممارسة سياسية نوعية مختلفة. وولد تيار أعتقد أنه لم يخيّب آمال الندوة اللبنانية، التي كانت تصبو، على حد التعبير الحرفي لمؤسّسها، إلى وجوب "تكسير الأطر السياسية العتيقة، أو بالأحرى تخطّيها من أجل استخلاص الأخلص من كل مسؤول، ومن أجل بنيان كل شيء على أسس الفكر".

لن أضجركم باستعادة البعض من جوانب مداخلتي التي شاركتُ فيها، منذ شهر تقريباً، في الندوة المنعقدة بمناسبة صدور الطبعة الفرنسية من كتاب تيموفييف "كمال جنبلاط الرجل والأسطورة"، وحاولت فيها أن أتوقف عند بعض من ذلك الغنى المثقلة به هذه التجربة الفكرية السياسية المحرّرة لهذا الرجل العلم.

لكنه لا يسعني إلا أن أنوّه بالوعي المبكر، الريادي حقاًـ، الذي تجلّى به كمال جنبلاط في محاضرته هذه بالذات، والتي شكّلت مدخلاً حقيقيا لوطنية لبنانية جديدة بعد ثلاث سنوات فقط من الاستقلال الذي يقوم في الآن معاً على الديموقراطية، وعلى حقيقة ثانية طالما تجادل اللبنانيون واختصموا في أمرها. ألا وهي حقيقة انتماء لبنان إلى بيئته العربية.

الجديد في وعي هذه الحقيقة أن لبنان، بانتمائه العربي الأصيل هذا، لا يملك إلّا أن يكون حريصاً أشد الحرص على صيغته المجتمعية القائمة على التنوّع الديني والانفتاح على الآخر، والقبول به واحترامه، وعلى التفاعل الخصيب والتحاور المغني للجميع في إطار وطنٍ سرّه أنه تأسّس على هذا العيش المشترك بتطوره، واحداً بتنوّعه. حرصُ كمال جنبلاط على هذه الخصوصية اللبنانية راح يتجلى ويتطور، ويتكامل في شروطٍ متبدّلة، دون أن يبدل جوهره الحق.

واسمحوا لي أن أكتفي هنا بالتذكير بمثالٍ واحد على هذه الرؤية الموقف. وكان هذا عندما اعتبر الميول التي ظهرت لدى بعض المسلمين لانضمام لبنان إلى دولة الوحدة، والتي أُعلنت في 8 شباط 1958 بين سوريا ومصر، ميولاً ضارةً وخطرة للغاية. وهذا في عز أوج المدّ القومي التحرّري، وفي خطابه الشهير الذي ألقاه أمام الرئيس جمال عبد الناصر في دمشق، مشدداً على خصوصية لبنان بوحدته واستقلاله، والذي تتعايش فيه وتتفاعل شتّى الأديان.

وأكّد جنبلاط في هذا الخطاب التاريخي الأبعاد على أنه لا وجود لأي تناقضٍ أو تعارضٍ بين فكرة لبنان المستقل والفكرة العربية، مشيراً إلى الإسهام المرموق للتنويريين اللبنانيين في النهضة الثقافية، والحضارة العربية، معرباً صراحةً عن اعتقاده بأن قوة الثورة المصرية إنما تكمن في كونها جمعت بين ما يلازم الإسلام من تسامحٍ وشورى وما يرافق المسيحية من شعورٍ بالعدالة والأخوة والمحبة، قائلاً بالحرف:

"كلّهم (أي مسيحيو لبنان) في التوجّه الحقيقي والمساواة مسلمون. وكلّنا (أي المسلمون) في الأخوة والمحبة مسيحيون".

واضحٌ أن جنبلاط لم يتوجّه بهذا الخطاب إلى عبد الناصر وحده، بل إلى جميع مواطنيه اللبنانيين كذلك، ومجدداً في العام 1958 لفت انتباههم إلى ما كان توقّف عنده منذ عام 1946، عندما ردّ هوية لبنان بجزءٍ أساسي منها إلى دورٍ يلازمها. فلبنان لا يسلم بهويةٍ ذاتية من غير دورٍ في بيئته العربية، وفي ما يتعدى بيئته ذلك. وهو في إدراكه هذا التلازم إنما ينقذ الهوية من مجرد البقاء أسيرة مرجعية تهجّره وتسمّره في الماضي ليبعث فيها حيوية الحاضر باتجاه المستقبل، فيقاربها بما هي صيرورة بتطورها. فالهوية والدور أمران متلازمان في الكيان اللبناني، ووجوده واستمراره.