Advertise here

الذكرى الأولى بعد المئة لميلاد القائد عبد الناصر

12 كانون الثاني 2019 17:54:00 - آخر تحديث: 12 كانون الثاني 2019 18:29:27


نمرُّ هذه الأيام، بالذكرى الأولى بعد المئة، لميلاد القائد العربي التاريخي، جمال عبد الناصر. (ولد في 15 كانون الثاني 1918وتوفي في 28 أيلول1970).

اثنانِ وخمسون عاماً عمرٌ قصيرٌ في حياة قادة الشعوب، لكنَّ الشخصية َ الفذّة لعبد الناصر جعلت من حياته وتجربته منارةَ عصرٍ، ورمزَ تحوُّلاتٍ نوعية، تتجاوزُ مدتَه القصيرة نسبياً. وإذا كان الباحثون والمؤرخون قد اختلفوا فيه وعليه كثيراً، فإنَّ أحداً منهم لم يُنكرْ، أنَّ المرحلة التي برزَ فيها عبـد النـاصـر منذ قيـادة ثـورة يوليو 1952حتى وفاته عام 1970، قد انطبعت بدورهِ وبخِياراته، فعُرِفَتْ بالمرحلةِ الناصرية، وقد كان فيها علَماً بارزاً، ولا سيما في مؤتمر باندونغ عام 1955 إلى جانب قادة كبار من أمثال الزعيم الهندي "جواهر لال نهرو" والزعيم اليوغوسلافي "جوزيف بروز تيتو" وغيرهما من القادة التحرريين في العالم. ومن اللافت تاريخياً في حياة العرب، أنه بعد مرحلة "دولة المدينة" التي ارتبطت كلياً بالرسول العربي محمد (ص)، لم تبرز أيُّ مرحلةٍ تاريخيةٍ خلال ثلاثة َعشرَ قرناً انطبعت بطابع قائد واحد ٍ مثلما برزت المرحلة الناصرية على مستوى الوطن العربي كلِّه، بغضِّ النظر عن مواقف المؤيدين والخصوم.

وبالرغم من مرور نحو نصف قرن على رحيل عبد الناصر، ما زالت تجربته وشخصيته ومواقفه وخياراته مثار بحثٍ لدى القوى الشعبية التحررية، عند العرب ومعظم القوى التقدمية في العالم. ومن المثير للانتباه تلك السمة الأخلاقية السامية التي رافقت عبد الناصر منذ طفولته المقهورة بوفاة أمه حتى وفاته هو بعد نحو عقدين في الثورة والسلطة. هذه السمة هي سمة ُ الصدق والعِفَّةِ التي قلَّما توافرت في القادة العرب المعاصرين إلّا من كان على نموذج عبد الناصر في مصر، وأحمد بن بلّة في الجزائر، وكمال جنبلاط في لبنان، وسلطان الأطرش وفارس الخوري في سوريا، وأمثالهم من القادة المحليين ممَّن كانوا في مستوياتٍ قيادية مختلفة.

عبد الناصر الطفل، هو ابن أسرةٍ ضيّقةِ الحال، ولد في الإسكندرية على ضفاف المتوسط لأب ٍ كان موظفاً عادياً في البريد المصري، وأسرته تعود في جذورها إلى قبيلة بني مرّة العربية القحطانية، ولم يُعرفْ عنها الثراءُ أو السلطة ُأو الجاهُ، أو اكتسابُ النفوذ بالقوّة. تلك كانت بيئتُه الصغيرة التي جعلتْه يرى بؤس الناس من أبناء الطبقات الفقيرة، والشرائح الدُنيا من الطبقات الوسطى التي ينتمي إليها والده حسين خليل سلطان المرّي. هذه البيئة التي جمعت المعاناة الاجتماعية (ضيق الحال) والمعاناة العاطفية (وفاة أمّه) والمعاناة الشخصية الخاصة (التفكير بمستقبله) صقلت فيه الإحساس بالقضايا العامة، فبدأ في مطلع فتوّتِه يلتقط الخيوط التي تربط بين الخاص والعام،ويدرك أن ما يعاني منه إنّما هو جزء من معاناة غالبية الشعب المصري الذي يرزح تحت سلطة تحالف الإقطاع والاستعمار، وكان ذلك في أواخر حكم الأسرة الخديوية إبّان عهد الملك فاروق. وهكذا كانت الظروف تتحدّى عبد الناصر ويتحدَّاها، وكانت أولى تجاربه المؤثرة، وهو لم يُتِمَّ السابعة َ عشرةَ من عمرهِ، عندما شارك في القاهرة عام 1935 في تظاهرةِ كبيرة ضد البريطانيين والأسرة الخديوية، وقد جُرِحَ في هذه التظاهرة عندما أُصيب في رأسه برصاص القوات الملكية التي ساندها عملاء بريطانيا.

هذا الحادث كان ذا أهمية كبيرة لدى عبد الناصر. بعد سنواتٍ قليلة التحق بكلية الحقوق ثم تركها لينخرط في الكلية الحربية. ومنها يدخل مرحلة ً جديدة ًيتحرَّكُ فيها وعيُهُ انطلاقاً من صدامه مع غيره من شباب مصر بالإقطاع المحلّي وبالاستعمار البريطاني في تظاهرة القاهرة المشار إليها. أما الحدث الأبرز الذي شعر فيه عبد الناصر أنه عربي مثلما هو مصري، فكان اشتراكه في حرب فلسطين عام 1948 حيث رأى استبسال الجنود والضباط فيما الأنظمة تتخاذل، فضلا ً عن الأسلحة الفاسدة. وكانت النكبة وخسارة فلسطين محرِّكاً أساسياً لوعيهِ ، ولم تمرَّ أربع سنواتٍ بعد النكبة حتى كانت ثورة 23 يوليو1952 بقيادة عبد الناصر ورفاقه في تنظيم الضباط الأحرار الذين أسقطوا الملك فاروق، والنظام الملكي، وبنَوا الجمهورية، وفتحوا الأبواب واسعةً أمام حركة تحرر عربية واسعة غيَّرت وجه العرب آنذاك. كما أسَّست لنضالٍ جديد ضد الاستعمار والقوى الرجعية المحلية، ونقلت مصر من بلد تابع لبريطانيا إلى بلد عربي قائد ٍ رسمَ تحالفاتٍ مع الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، واستطاع أن يعرقل ويحبط كثيراً من مخططات الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين ،وأن يساند أحرار العرب، ولا سيما في اليمن، وسوريا، والجزائر بقيادة بن بلّة، وفي لبنان بقيادة كمال جنبلاط وحليفه معروف سعد وباقي القوى الوطنية.

هذه بعضُ الخطوط ِالأساسية التي جعلت من خيارات عبد الناصر تياراً في الوطن العربي كلِّهِ، وإذا كنَّا قد أشرنا إلى الخيوط الرابطة بين طفولته ومواقفه فإنَّ المغزى المراد في الفكر السياسي، هو أن القائد الذي يتجذّرُ في نفوس الناس إنَّما ينطلق من ثلاثةِ أسسٍ هي: 1- السمو الأخلاقي، 2- والصدق في الممارسة القيادية، 3- والتطوُّر المعرفي، وذلك سواءٌ أَحَكَمَ عليه التاريخ بأنه أخفق أو أفلح. هذه الأمور تنطبق على عبد الناصر، فهو حملَ همومَ أمَّةٍ، وقاد ثورةً، ولم يستغلَّ السلطة لبناء ثروة، وظلَّ يطوِّرُ معرفتَه منذ أن قرأَ سيرَ صحابة الرسول(ص) مروراً بأفكار الثورة الفرنسية وأدب فولتير، وصولاً إلى الأفكار الاشتراكية، وكان صادقاً في كل ما قال وفعل بغضِّ النظر عن الخطأ والصواب. عبد الناصر في هذا المستوى رمز عربي وعالمي يبقى قيد البحث والتمحيص آماداً طويلة.

*عضو قيادي في الحزب التقدمي الاشتراكي وعضو اتحاد الكتاب في لبنان