Advertise here

الخيارات الحكومية تزداد تعقيداً... والاستحقاقات الداهمة لا تنتظر!

01 تشرين الثاني 2019 06:00:00 - آخر تحديث: 01 تشرين الثاني 2019 09:23:45

خلَطت استقالة الرئيس سعد الحريري أوراق الأزمة السياسية المتفاقمة في لبنان، وذلك بعد وصوله إلى حائطٍ مسدود في تجديد عقد التسوية الرئاسية التي أوصلت العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية قبل ثلاثة أعوام. وعلى الرغم من ضغط الشارع المنتفض منذ 17 تشرين الأول، حاول الرئيس الحريري، المدرك لخطورة الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة، تقديم التنازلات الممكنة لعبور الأزمة بأقل الخسائر الممكنة؛ فأنجز ورقةً إصلاحية مقبولة، على الرغم من ملاحظات وزراء الحزب التقدمي الاشتراكي عليها، ثم حاول إجراء تعديلٍ في الحكومة يوفّق فيها بين مطالب المنتفضين وضرورات استمرار الحكومة، فلم يستطع.

استقالة الرئيس الحريري، التي شكّلت مفاجأة، وصفعة قوية، بوجه الرئيس ميشال عون وتكتل لبنان القوي، لم يستسِغها حزب الله، فهي تتعارض والاتجاهات التي حدّدها أمين عام الحزب في إطلالاته الأخيرة، والتي أكّد خلالها رفضه إسقاط العهد، واستقالة الحكومة، باعتبارهما جزءاً من مخططٍ خارجي يستهدف حزب الله ودول الممانعة. كما أن استقالة الحريري لم تتوافق ورأي الرئيس نبيه بّري الذي حاول ثنيه عنها، حتى قبل إعلانها بلحظاتٍ قليلة، إدراكاً منه بصعوبة تشكيل حكومة جديدة تلبي متطلبات المرحلة الراهنة الشديدة الخطورة. والرئيس برّي، كما العديد من سفراء الدول الأوروبية، عبّر عن قلقه من وقوع لبنان في الفوضى إذا ما استمرت مرحلة تصريف أعمال إلى أمدٍ طويل. والرئيس برّي، كما باقي الفرقاء يدركون حراجة الموقف السياسي والاقتصادي الداخلي، ودقة وحساسية الوضع الإقليمي، وتأثيرات ذلك على موازين القوى الداخلية، التي تتشكل على أساسها الحكومات في لبنان.

الساعات، والأيام القليلة الماضية التي سبقت استقالة الرئيس الحريري، كشفت عمق أزمة الثقة بين القوى المتحالفة في حكومة الوحدة الوطنية، والمناقشات التي سُرّب بعضها في الاعلام، حول التعديل الحكومي، وتعنّت رئيس التيار الوطني الحر وفريقه السياسي، ومحاولات هذا الفريق فضّ الاعتصامات الشعبية بالقوة من خلال زجّ المؤسّسة العسكرية والقوى الأمنية بهذه المهمة، أو تحشيد جمهور ومناصري التيار بوجه الحراك الشعبي المنتفض بوجه السلطة الحاكمة، وكل ذلك يعبّر عن خطورة تلك العقلية الاستعلائية الشخصانية العقيمة، والتي لا تعير أي قيمة أو اهتمام لقضايا الناس وأوجاعها، ولا تضع المصلحة الوطنية ضمن اهتماماتها. وهذا ما سيعيق إمكانية الخروج من الأزمة الحالية، حيث أن الرئيس عون، كما وزير الخارجية جبران باسيل، لا يعيران أي اهتمامٍ بمطالب الحراك الشعبي، وذلك بالتوازي مع نظرة حزب الله للحراك بأنه يخدم أجندات سياسية خارجية.

ومما لا شك فيه أن حركة الاحتجاجات الشعبية - التي انفجرت ليل 17 تشرين الأول، غضباً في الشارع رفضاً للضرائب التي تداولت بها لجنة إعداد موازنة 2020، بما فيها الضريبة على تطبيق الواتس أب - تزامنت مع تحولاتٍ إقليمية حرجة وحساسة، حيث يشتد طوق العقوبات الأميركية على إيران وحزب الله من جهة. وترتسم معالم مرحلة جديدة من التعاون بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة الأميركية حول سوريا، تبدو إيران بعيدة عنها، كما أن الشارع العراقي المنتفض منذ مطلع تشرين الأول يصوّب شعاراته ضد ايران وأذرعها العسكرية والسياسية في العراق.

لذا فإن حزب الله يعتبر أن الحريري باستقالته تلك تجاوز الخطوط الحمراء التي رسمها أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله، لا بل رمى بنار الاحتجاجات الشعبية المشتعلة في الشارع بوجه العهد وحلفاء الحزب، ورضخَ لمطالب المحتجّين، حيث بدأ الحريري يتحدّث عن حكومة تكنوقراط خاليةٍ من السياسيين، وبالتالي إبعاد الحزب عن الحكومة، وهذا ما لم يقبل به نصر اللّه. فأي تنازلٍ أمام مطالب المحتجين سيرتّب على العهد وحلفائه سلة تنازلات لا تنتهي. وحزب اللّه لن يسمح بتشكيل حكومة غير سياسية يكون خارجها في لحظة اشتداد العقوبات الأميركية عليه، ولن يسمح بأن تتفلت الساحة اللبنانية من قبضته، ومن ورائه المحور الإيراني، وذلك في لحظة انفجار التظاهرات في العراق، والتي تتشابه بالشكل والمضمون مع تظاهرات لبنان، مع فارق الخصوصية الاحتفالية اللبنانية. فالتظاهرات العراقية انطلقت من قلب البيئة الشيعية الموالية لإيران، فيما امتدت احتجاجات الشارع اللبناني إلى قلب بيئة المقاومة في الجنوب والبقاع والهرمل. وهذا ما يرى فيه الحزب مؤامرة أميركية – سعودية بأذرعٍ داخلية، وهي دفعت، ولأول مرة، المرشد الأعلى الإيراني السيّد علي خامنئي للحديث عن تلك التظاهرات، مقارباً تلك الاحتجاجات المحقة بنظرةٍ أمنية كتلك التي تعاملت بها "الباسيج" مع الثورة الخضراء في إيران، متهماً ضلوع الاستخبارات الأميركية والغربية بالوقوف خلف تلك الاحتجاجات، وقال، "أكبر ضربةٍ يمكن أن توجّه لبلدٍ ما هي تقويض أمنه". وأضاف، "إن الجهات الكامنة وراء هذه الأعمال الخبيثة، والأحقاد الخطيرة، مكشوفةً، إذ تكمن وراء هذه القضايا أميركا، وأجهزة الاستخبارات الغربية، وبتمويلٍ من بعض الدول الرجعية في المنطقة".

وخاطب خامنئي المتظاهرين في العراق ولبنان قائلاً، "العدو يسعى لتقويض الآليات القانونية، وخلق الفراغ في العراق ولبنان. لذا فإن الطريق الوحيد لوصول الشعب إلى مطالبه المشروعة هي متابعتها في أطر الآليات القانونية".

المحصلة الأخيرة لهذه التباينات تشير إلى أن لبنان دخل مرحلةً جديدة من التصعيد السياسي الحاد، وأن نتائج الاستشارات النيابية الملزمة، والمنتظر تحديدها من قبل رئيس الجمهورية، سوف تحدّد طبيعة ذلك التصعيد ونوعيته. فإذا عادت الكتل النيابية لتسمية الرئيس الحريري تولي تشكيل الحكومة الجديدة، فإن للحريري شروطه التي استقال على أساسها، والتي لن يقبل بها حزب الله، ولا التيار الوطني الحر. أما إذا تمّت تسمية رئيس جديد غير الرئيس الحريري، فإن ذلك يعني أن لبنان قد دخل بسرعة مرحلة الانهيار الاقتصادي، والانكشاف السياسي الدولي، وباتت السلطة السياسية في مواجهةٍ مع نصف اللبنانيين من جهة، ودول العالم الغربي من جهة أخرى، عوضاً عن المقاطعة التامة للدول العربية.

ما يجب أن تدركه القوى السياسية في مشاوراتها وتقييمها للحدث اللبناني قبل الاستشارات التقليدية الملزمة، هو أن الشارع اللبناني بعد انتفاضة 17 تشرين الأول، فرض موازين قوى جديدة على الساحة السياسية. فمكوّنات السلطة لم تعد تخضع لموازين الكتل النيابية والأحزاب السياسية فقط، بل بات المجتمع المدني بامتداداته المتنوعة، العابر للمناطق والطوائف، لاعباً أساسياً على الساحة اللبنانية؛ ولم يعد بإمكان الرئيس الحريري ولا غيره من الرؤساء، مقاربة الأمور على قاعدة التوازنات السابقة التي أنتجتها التسوية الرئاسية، والانتخابات النيابية التي تلتها، كما لم يعد بإمكان الكتل النيابية وحدها تحديد شكل، وطبيعة، ومهام، الحكومة المقبلة. فالمطالب التي رفعها المنتفضون في الساحات، "حكومة محايدة من الخبراء"، أو "حكومة تكنوقراط"، وترتيبات المرحلة الانتقالية لتغيير النظام السياسي، أصبحت من أولويات عناوين المرحلة الجديدة.