Advertise here

الثورة... وانكشاف المستور

26 تشرين الأول 2019 17:52:00 - آخر تحديث: 27 تشرين الأول 2019 10:29:22

"إذا أردت ثورة فاطلِق لها شعاراً"
 "كلن يعني كلن"، الشعار الأقوى منذ الاستقلال الذي حرّك الثورة، ولو أن هذا الشعار كان عامياً وشمولياً في مكانٍ ما. ولكن الهدف منه ليس بعض الأفرقاء في السياسة، إنما هو رسالةٌ واضحة الأبعاد والأهداف عن غير قصد إذا كنا طوباويين، وعن قصدٍ إذا كنا مسيّسين. هذا الشعار كشف المستور الذي حاول الجميع من أفرقاء الممانعة إخفاءه على مدى أكثر من سنة. كما وأظهر هذا الشعار الكثير من خبايا السياسة المحلية والدولية تجاه كُثرٍ من صنّاع السياسة في لبنان. فالشعار أخرج الأسرار من خبايا الظلام وواجه الحقيقة، وأطلق الخوف في رحلةٍ غير محسوبة النتائج نحو حرية الكلمة. وهو الذي أظهر واقع الأمور مقابل إدمان الصمت واحتساء السكون، وأفشى تململ جمهورٍ قلّما كان يتكلم لغة الحرية في مواجهة الأحداث.

"كلن يعني كلن"، شعارٌ حقّق كثيراً من الأهداف للّذي وضعه، وهزّ مضاجع قادةٍ كان من المحرّم وضع رسمٍ لهم على الشاشات، وفي وسائل الإعلام. إنه شعارٌ ختم مرحلة طويلة من الصمت المبين، والقمع المطلق للكلمة. كما وختم مرحلةً متدرجة من العقوبات بدأت بالأسماء، وامتدّت للشركات، وانتهت بالمصارف وتجميد الحسابات، لتُختم هذه العقوبات بشعارٍ ظهر في كل حي، وخلف كل شاشة، وعند كل محروم في كل مدينةٍ وقرية من أماكن كانت تتسم بشمولية الشعارات، وعقائدية المبادئ. حساباتٌ جُمِّدت، وحركة تحويل للأموال أُوقفت. أما تداول الدولار فقد كان الضربة التي قصمت ظهر البعير. فأنشطة حزب الله المالية أصبحت تتسم بصعوبة مطلقة، والتعامل التجاري والمالي أصبح مكلفاً وقاتلاً لكل من يتعامل معه، ليصبح سعد الحريري والحكومة الخيار الأخير في المواجهة، والباب الأخير المفتوح دولياً لوزراء الحزب ومناصريه، فكان الدعم المطلق للحكومة هو نتاج أزمةٍ ظهرت إلى الواقع، وليس حلاً للأزمة الظاهرة. وهو نتاج رؤيةٍ لمستقبل الحزب ودوره، وليس إصلاحاً لوضع النظام وأدائه. فالحزب بسياسته المحلية والعربية أقصى نفسه عن كل دورٍ، والأخطر أنه أقصى حلفاءه العلمانيين قبل المتشدّدين. ويتّضح ذلك من مفارقاتٍ قلّما حدثت في السياسة اللبنانية.
المفارقة الأولى: ربما لم يكن أحد من أطراف السياسة في لبنان على درايةٍ في البداية بأنه هناك عمل كبير يُعمل عليه باستثناء الأستاذ وليد جنبلاط، حيث تردّد في الاستقالة. فعدم الاستقالة خدَم الثورة، وحيث اعتبر الاستقالة ضرباً في المجهول، ليعود ويؤكّد أنه مع رئيس الحكومة. وباعتقادي أنه لو خرج جنبلاط من الحكومة لكان خدمَ حزب الله ولم يضرّه. والواضح أن حزب الله يتّهمه بأنه داعمٌ للحراك، ومحركٌ أساسيٌ فيه، لأنه هو من كان بدأه في ساحة الشهداء، وهو من قال إنه سيخرجهم نهر الشعب من الحكم. ولكن جنبلاط فهم الرسالة عندما قال إنه 7 أيار جديد، وإنه لن يستقيل ليعمّ الفراغ، وتُقرع طبول الحرب.
 المفارقة الثانية: عروسة الثورة، طرابلس، خدمت الثورة. فطرابلس خزّان رئيس الحكومة، والثقل السنّي الذي يلجأ إليه عند المواجهة أصبح جمهورها يطالب بإسقاطه واستقالته، في حين أن الضاحية الجنوبية والحزب، الخصمان الأكثر خصاماً لسعد الحريري وتيّاره، أصبحا يطالبان ببقائه ودعمه. كما أن حليفيه، سمير جعجع ووليد جنبلاط، يطالبانه بالاستقالة، وأخصامه يطالبونه بالبقاء، ويسهّلون له كل الدعم. ولمن يراقب يرى أن سعد الحريري لم يكن يوماً ليفرض شروطه مثل اليوم، ولم يكن يوماً صاحب قرار وقدرة مثل اليوم.
وحسب المثل القائل، "إن أزهر فولك سافِر وخلّيه، وإن أزهر خيارك نصوب خيامَك فيه".

المفارقة الثالثة: إن كل الحروب التي خاضها حزب الله في الداخل والخارج في وجه اسرائيل، وفي دعم سوريا، وفي مواجهة الداخل، خرج منها قوياً، واكتسب جمهوره مناعةً من التململ، وكان داعماً مطلقاً له دون تردد، مع أنه خسر في المال، والسياسة، والنأي بالنفس الذي كان مسلّماً به. لكن جمهوره بقي كما هو حتى أتت التحركات التي بدأت في 17 تشرين على أهمّ علاقة لطالما افتخر بها حزب الله، ألا وهي علاقته مع جمهوره الذي وصفه بأشرف الناس، حيث خرجَ إلى العلن من تكلّم بحرية عن "كلّن يعني كلّن" ليس مستثنياً أحداً. وما تردّد عن الكلام من المثقّفين كان ينتظر النتائج قبل الانخراط، وهذا ما استدعى إرسال جمهوره إلى الساحات لكمّ الأفواه، والتضييق على الإعلام، من أجل وقف الاستنزاف الحاصل حتى أصبح الحديث عن الرئيس بري مسموحًا لدى هذا الجمهور لترك نافذةٍ في جدار الصمت علّها تخفّف الاحتقان.
المفارقة الرابعة: إن الأمين العام، وهو القارئ الجيّد للأحداث، والعالِم بكل الخبايا لم يقرأ جيداً الشعارات هذه المرة، والتي نادى بها بعض الثائرين، والتي كانت مدروسةً وممنهجةً، بغضّ النظر عن شعارات البعض، والتي تعبّر عن حالةٍ حقيقيةٍ وصل إليها الناس. فقراءته الأولى خدمت الثورة من دون أن يدري. كما وأن عفوية التحرّك التي تكلّم عنها في حديثه الأول، والتي لم يكن يدري، أو لم يكن يريد أن يدري، كانت أيضاً في بعضها ممنهجةً ومدروسةً، حيث وضعته أمام جمهوره قبل أي جمهورٍ آخر،  في حين تحوّل هذا التحرّك في الكلمة الثانية إلى استهدافٍ ومؤامرة على المقاومة، وأنه مدعومٌ من السفارات. 
المفارقة الخامسة: إن خروج القوات اللبنانية من الحكومة، والنزول إلى الشارع أضرّ بالثورة، وقدّم الخدمة لحزب الله من دون قصد، حيث صوّر الحزب لجمهوره أنه يواجه أصدقاء السعوديين وأميركا في لبنان، وأن هذه الاعتصامات إنما الهدف منها إضعاف المقاومة، لأن من يدعمها هم أعداء المقاومة، لذلك تصبح المواجهة مختلفةٌ عن حاجات الناس. وهذا يدلّ على أن أحداً من السياسيين لم يكن يدري ما سيحصل، وكان متأخراً في التحليل. وهنا تكمن أهمية ما يجري، وعدم إظهار ممثلين لهذا الحراك. وبدا جلياً من كلمة رئيس الجمهورية كيف أنه طلب ممثلين عن هذا الحراك، وتردّد نفس الطلب من السيد نصرالله. هل يكون ذلك صدفة؟ طبعاً لا. وما سيجلبه المستقبل سيكشف مزيداً من  الواقع المأزوم.
خطآن ارتُكبا في هذه الأزمة، وربما كانا وقعهما مؤلماً على أحدهم، ومفيداً للطرف الآخر في لبنان. 
الخطأ الأول عندما خرج الأمين العام  في حديثه الأول وأطلق حرية التحرّك، وبراءته، وعفويته، مما أدى بعدها إلى فقدان السيطرة على الجمهور الملتزم  تعاليم قائده، فاستفاد منه جمهور الثورة، وخرج من عنق الزجاجة.
والخطأ الثاني هو خروج القوات اللبنانية إلى الشارع، والذي أثار جمهور المقاومة، وغيّر أهداف الخطة من قِبل من أعدّها، واستفاد منها حزب الله ليعيد قراءة الأحداث، وهذا ما بدا واضحاً في كلام السيّد الثاني. 
ربما الثورة ستكشف المستور من الأخطاء والحقائق، وكما يقول لينين:
"أن تعيش الثورة أمرٌ أكثر متعة وإفادة من الكتابة عنها"
في الختام... هل، "كلن يعني كلن" أسقطت الأقنعة، وعرّت النظام، وهمّشت التسوية، أو أنها ستكون مقدمةً لمنازلة كبيرة غير محسوبة النتائج؟... للحديث تتمة.