Advertise here

سقوط الرئيس القوي؟

26 تشرين الأول 2019 12:59:41

بنتيجة التغيّرات السياسية بعد هزيمة إسرائيل، والانسحاب السوري، وإعادة تموضع القوى السياسية، والتحالفات المتناقضة الجديدة، وما نتج عنها من تعطيلٍ متعمدٍ للمؤسّسات الدستورية، انتصرت نظرية الرئيس القوي بعد التحالف (العوني - القواتي) وانتخاب الرئيس ميشال عون، بوصفه الأقوى في طائفته، كما هو حال رئيس مجلس الوزراء السنّي الأقوى في طائفته، ورئيس مجلس النواب الشيعي الأقوى في طائفته. وأصبح وصول الجنرال عون إلى الرئاسة الأولى، الذي كان حلماً لا يتحقق، حقيقةً بقدرةٍ إلهية، وقوة السلاح.

رفعَ الرئيس عون – الذي تخلى عن رئاسة التيار الوطني - شعار العهد القوي، وبيّ الكل، ومحاربة الفساد، وذلك بعد أن اعتمد على تمثيله الشعبي الذي سوف يجعل من ولايته الرئاسية عهد الإصلاح والتغيير.

لم يستطِع الرئيس أن يفصل بين موقعه كرئيس جمهورية جميع اللبنانيين، وبين رئيس تيارٍ سياسي. وبدلاً من أن يكون حكماً وأباً لجميع اللبنانيين، بما للكلمة في السياسة من معنى، قام بتهميش مبدأ المشاركة في الحكم – حكم مجلس الوزراء مجتمعاً - الذي قام عليه دستور الطائف، وأطلق العنان لفريقه السياسي في إدارة البلاد، وهو الذي وضع يده بشكلٍ ممنهج على مقدرات الدولة ومؤسّساتها، ومرافقها، وإداراتها، وأجهزتها. فاحتكر التعيينات القضائية، والإدارية، والأمنية، بعد أن اعتمد سياسةً إلغائية أصابت الحلفاء قبل الخصوم.

وأصبح الهمّ الأوحد لهذا الفريق السياسي، الحاكم خلال العهد الحالي، تحقيق كل السبل الآيلة لجعل  كابوسٍ حقيقةً قائمة، وهو إيصال الوزير جبران باسيل إلى رئاسة الجمهورية في الولاية القادمة. أوَليس رئيس الجمهورية هو القائل أن جبران هو الأول في السباق إلى الرئاسة.

أما أولى إنجازات العهد القوي في سبيل ذلك فقد كان إصدار قانون انتخاب عزّز الطائفية، وأعاد لبنان إلى المناطقية والمذهبية، بحجة إعادة حقوق المسيحيين، فألغى المسيحي المعتدل، وعزّز دور الحزبي على حساب المواطن، وأوصل تسعة وعشرون نائباً موالياً لفريق الرئيس السياسي إلى المجلس النيابي.

ضربَ العهد القوي بعرض الحائط مجابهة الأحزاب والقوى السياسية لهذا النهج في الحكم، وتقويض إدارات الدولة من جهة، وتمنّع عن رؤية رفض الشعب لهذا النهج عندما عبّر عنها بالامتناع عن التصويت في الإنتخابات النيابية، حيث نتج عنه نسبة تصويت قدرها 50% من أعضاء المجلس النيابي الحالي، أي 26% صوت مع، و24% صوت ضد.   

أوصل هذا النهج، وهذه السياسة، وهذه الممارسات الكيدية التي انتهجها فريق، أو تيار، رئيس الجمهورية السياسي الحاكم، ولا سيّما تعمُّد إثارة الفتن الطائفية، والخلافات السياسية حتى ضمن البيت المذهبي الواحد، والوصول إلى القول بأن فريقه السياسي نهرٌ سوف يجرف القوى السياسية المناوئة، وإلى إيجاد أزمةٍ سياسية خانقة ولدّت أزمةً اقتصادية، بل انهياراً اقتصادياً أدّى إلى هذه الثورة الشعبية. وهي الثورة التي كان يراها مسبقاً رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي عندما استذكر قبل يومين من بدء الثورة، ما كان قد قاله الشهيد كمال جنبلاط لأحد رؤساء الجمهورية في حينه، "أتى بكم الأجنبي، فليذهب بكم الشعب".

إن العهد القوي يعاني الآن من ثورةٍ شعبيةٍ عفوية، والتي تداعت إليها جميع فئات المجتمع، أطفالاً ونساءً وشيوخاً، ونخبوييّن ومثقفين، انضووا جميعاً تحت لواء حزب الجوعانين. هذا الحزب الذي لا دين ولا طائفة له، لكن يجمعهم المطلب، والحاجة، والخدمة، والحقوق، وغياب الدولة.  

فإذا كان العهد، والرئيس القوي، يأخذان شرعيتهما من التمثيل الشعبي المزعوم، فهنالك مليونَي متظاهر وثائرٍ في الشارع لم يعطوا العهد الثقة سابقاً، وأكّدوا على حجبها مجدداً في الشارع، وسوف يمارسونها في صناديق الاقتراع لاحقاً، وهنالك مناصرون وملتزمون للعهد نزعوا ثقتهم عنه الآن.

فنتائج الثورة لا تقتصر على إسقاط الحكومة عبر تفريقها عن العهد الذي يُمنع إسقاطه في الشارع، بل أن هذه الثورة الشعبية أنهت هذا العهد، وأسقطت نظرية الرئيس القوي الذي فَقَدَ شرعيته الشعبية التي هي مصدر السلطات. 

الثورة الشعبية بدأت بمطالب اقتصادية محقة، ولن تنتهي إلا بمكتسباتٍ سياسية قد تغيّر، بل يجب أن تغيّر، وجه لبنان حتى الوصول إلى الدولة المدنية البعيدة عن الطائفية... .