Advertise here

الحراك اللبناني أمام المنعطف: هل سيحدث التغيير؟

26 تشرين الأول 2019 07:05:00 - آخر تحديث: 26 تشرين الأول 2019 11:44:08

يشكّل الحراك الشعبي المستمر في الشارع اللبناني منذ 17 تشرين الأول، انعطافة كبيرة في مجرى السياسة الداخلية، وفي رسم صورة جديدة لمستقبل النضال الشعبي، الذي تجاوز قدرة السلطة السياسية على استيعابه؛ وتجاوز قدرة الأحزاب الموالية والمعارضة على السير بموازاة هذا الحراك، أو اللحاق به، وإن بأشكال متفاوتة. كما تبيّن عجز العديد من النُخب الثقافية فهم وملاحظة عمق هذا التحول، وسرعة اتساع دائرة انتشاره، وقدرته العابرة للمناطق والطوائف.
لذلك فإن لبنان اليوم يقف أمام مرحلة جديدة من مراحل الصراع الاجتماعي – السياسي، يمكن مقاربتها بثورات الربيع العربي التي انطلقت من تونس في 17 كانون الأول 2010، وانتقلت شرارتها إلى مصر، واليمن، وسوريا، وليبيا، والجزائر، والعراق، والسودان، واليوم في لبنان، حيث لم تعد تجدي أساليب المواجهة القديمة الاستيعابية التخديرية على قاعدة الوعود النمطية في الأوراق الإصلاحية غير الإجرائية، أو في التعديلات الطفيفة في مشهدية السلطة لحفظ ماء الوجه. كما لم يعد بالإمكان استخدام القوة العسكرية لترهيب المتظاهرين كما يحصل في العراق، وذلك بالقياس على تجربتَي سوريا واليمن الشاخصتَين أمام أعين المجتمع الدولي. كما أن محاولات الترهيب الاجتماعية والمخابراتية المبتذلة كاستحضار شارع بوجه شارع آخر، أو دفع بعض المندسين داخل الاعتصامات باتت أنماطاً مقززة ومستفزة وغير مجدية، وهي تزيد من غضب الناس وتدفع البلاد نحو أتون الفوضى.
 
لقد تبيّن، ومن خلال الردود الشعبية، على المواقف التي أعلنها كلٌ من رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، واعتبارهما أن "الورقة الإصلاحية" ما كانت لتتحقق لولا التحركات الشعبية، بأن ذلك لم يُرضِ المتظاهرين. فبعد كل تصريح كان يرتفع عدد المحتشدين في الساحات مطالبين "بإسقاط النظام"، وحيث بات هناك شبه إجماع على أن الورقة الإصلاحية ليست سوى وعود لن تنفذ ما لم تذهب السلطة الحالية. وبات لدى المتظاهرين مجموعة مطالب أساسية قابلة للتنفيذ، والتي لخّصها عددٌ من الناشطين بنقاطٍ ثلاث:

-استقالة الحكومة وتشكيل حكومة مستقلة.

-إجراء انتخابات نيابية مبكرة، وفق قانون جديد على أساس وطني.

-استرجاع المال العام للخزينة، ومحاسبة الفاسدين.

 لن تقبل القوى الممسكة بالسلطة، لا سيّما حزب الله، إسقاط الحكومة، ولا إسقاط العهد. فالسيّد نصر الله قالها بوضوح في خطابه المتلفز الذي أسهب فيه الحديث عن أهمية الورقة الإصلاحية ومبادرة رئيس الجمهورية، وهي دعوة المتظاهرين للحوار معه، معتبراً أن أي تغيير للحكومة يتطلب أشهراً عديدة، وأن إسقاط العهد مرفوضٌ حالياً. كما أنه بات من المؤكد بأن رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، لا يقبل بأي تعديل وزاري يُسقطه من الحكومة، وأنه أعد مجموعة أزمة من قياديين في التيار الوطني الحر لمواجهة الحراك الشعبي. كما أن بعض الصحف المحلية تناقلت معلومات عن مسؤولين غربيين مهتمّين بلبنان، أن التريّث في اتخاذ أي موقف يُدخل البلاد في الفراغ، ويسرّع من الانهيار المالي والاقتصادي؛ وبالتالي الدخول في فوضى تخشاها الدول الأوروبية، وهي تربط تنفيذ مقررات "سيدر" بالاستقرار الأمني وبالإصلاحات الاقتصادية، وهو ما يعطي الرئيس سعد الحريري حجة ربط استقالة حكومته بالاتفاق المسبق على الحكومة الجديدة.
 
موقف السلطة السياسية، ولا سيّما القوى الممسكة بزمام الأمور، وهي التي عقّدت التسوية الرئاسية، بات أمام حائط مسدود. فالشارع ثائر ومتماسك، ويقدّم نموذجاً متقدماً من أشكال الوحدة الوطنية، والتضامن الوطني، والوعي الثقافي، والالتزام الإنساني، وهو الذي يتمدد من منطقة إلى أخرى. فغضب الناس من الموقف الرسمي يتضاعف، وهوة الثقة المفقودة بين الناس والدولة تزداد عمقاً، ما يؤشر إلى أن الازمة باتت أكثر تعقيداً، وهي مفتوحة على احتمالات عدة أكثر سلبية، وذلك رغم الأمل الذي زرعه هذا الحراك في قلوب الشباب الثائر الذي لا بد من سماع صوته، والإنصات إلى رأيه. 

ومما لا شك فيه أنها ليست المرة الأولى التي ينتفض فيها اللبنانيون، ويجسّدون في موقفهم الجامع هذه اللحمة الوطنية. فتاريخ لبنان الحديث والمتوسط والقديم غنيٌ بالوقفات والانتفاضات الوطنية، والاجتماعية والسياسية والعربية، ونجح في محطات عديدة في كسر حواجز الخوف المناطقي والطائفي، وحقق إنجازات وطنية وإصلاحية، ومنها ثورة 1952 التي خاضتها الجبهة الاشتراكية بقيادة كمال جنبلاط، وأسقطت حكم الفساد في عهد الرئيس بشارة الخوري. كما نجحت التظاهرات الشعبية النقابية، والمطلبية، والطالبية، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في الضغط على الحكومات القائمة، وفرضت العديد من التقديمات الاجتماعية، والقرارات الإصلاحية، وقوانين الحماية للعمال، والمزارعين، وصيادي الأسماك، وكسر سياسة الاحتكار. وحقّقت التظاهرات إنجازات مهمة في تعميم التعليم الرسمي، وإنشاء الجامعة اللبنانية، إضافةً إلى إسقاط حكم المكتب الثاني، وسياسة كمّ الأفواه التي اعتمدها.

كما نجحت ثورة 14 آذار 2005 في رفع حكم الوصاية السورية عن لبنان، وإخراج جيشها وأنظمتها المخابراتية - الأمنية من لبنان، وإسقاط النظام الأمني الذي تحكّم في سياسة لبنان الداخلية والخارجية، وفرض سطوته على مفاصل الحياة اليومية التي ضاق منها اللبنانيون ذرعاً، وانفجرت بوجهها في لحظة دقيقةٍ من تاريخ لبنان، حيث سقط الرئيس رفيق الحريري شهيداً في وسط بيروت في انفجارٍ تردّدت أصداؤه في المحافل والعواصم الدولية.
 
لم تتمكن تلك الثورات، والانتفاضات، والتظاهرات الوطنية المختلفة الأهداف، والأوقات العابرة للطوائف والمناطق على مدى تاريخ لبنان، من منع انزلاق الدولة الصغيرة الفتية إلى أتون الحروب الاهلية، والتي يُجمع الكثير من الباحثين على أن أسبابها تتمركز في "واقع وموقع لبنان". فالنظام الطائفي المتجذّر في مؤسّسات الدولة اللبنانية ومجتمعاتها، نجح في تجديد نفسه مع كل تحوّلٍ داخلي، وأمام كل منعطفٍ إقليمي أو دولي، وما زال ممسكاً بمفاصل المجتمع والدولة اللبنانية ومؤسساتها. كما أن موقع لبنان الجغرافي على تقاطع الممرات الدولية، وبين قاراتها الثلاث، جعل منه ساحة للمصالح الدولية، وفي لحظات اتفاقها وصراعاتها، وهو ما جعله ساحة للحروب المختلفة الأسباب والغايات الداخلية والخارجية، والتي استفاد منها النظام الطائفي الذي منع، ويمنع، خروج النموذج اللبناني من أزماته التاريخية وانقساماته العميقة. ولطالما كان يُقال أيام سيطرة الدولة العثمانية، أن أزمة لبنان هي في موقعه بين "والي عكا ووالي دمشق"، فإنه اليوم يقف أيضاً عند بوابة الصراع نفسه (الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه) جنوباً، و(النظام السوري وحلفائه) شرقاً وغرباً، والتي تبرز اليوم في لحظة إقليمية حرجة، حيث الصراع العربي – الإيراني، والأميركي - الإيراني في أوج تصاعده. وهذا ما يعطي أمين عام حزب الله، السيّد حسن نصر الله، حجة الشك بصدق نوايا المتظاهرين، واتهام القيّمين على الحراك، "تنفيذ أجنداتٍ سياسية تهدف إلى النيل من عناصر قوة لبنان، الدولة والجيش، والمقاومة"، وهو ما يؤشّر إلى أن الأزمة اللبنانية دخلت عين العاصفة الإقليمية. فنصر الله وضعَ الحراك اللبناني، ومن خلال إشارته للتغطية الإعلامية العربية والدولية، وذلك بموازاة الحراك العراقي، اعتبرهما جزءاً من المشروع الدولي ضد إيران، فدعا جمهوره ومناصريه للخروج من الساحات.
 
لذا، وأمام تلك التحولات والتطورات التي تشير إلى أن الأزمة اللبنانية ماتزال في بداياتها. وقياساً مع أزمات المنطقة التي فاق عمرها الثماني سنوات، وبعد عشرة أيام من اندلاع شرارة الحراك الشعبي (الثورة)، لا بدّ من بعض الملاحظات: 

على الحراك البحث الجدي في كيفية صموده، وضمان ديمومة استمراره، وإنتاج علاقات داخلية في ما بين ساحاته المختلفة تتّسم بالديمقراطية، وتوفّر الشفافية والمشاركة الشعبية الواسعة لضمان وحدة الموقف الميداني – السياسي ، ومنعه من الانزلاق نحو التطرف اللفظي و "الثورجي".

أمام الحراك تحدي تشكيل وفدٍ، أو هيئة تمثّله وتكون قادرة على التفاوض الذكي والأمين، وعدم الاستعجال في تشكيل أي جسمٍ قيادي يدّعي تمثيل الشارع، لأن في هذه الخطوة دفعٌ نحو الانقسام والاستغلال.

 أمام الحراك مهمة إعداد ورقة عمل واضحة الأهداف، والأولويات، والمطالب المباشرة، القريبة المدى والبعيدة المدى.

لم تعد تجدي أساليب العمل المتبعة سابقاً، والمتشابهة مع تجربة الحراك السابق المختلف الأهداف والغايات، والتي وصلت إلى ما وصلت اليه، وهو ما يتطلب استنباط أساليب جديدة.

ويتطلب الأمر احتضان المشاركة المميّزة للحراك الجنوبي، وتأمين استمرارها ودورها القيادي، وتجنّب الوقوع في أخطاء حركة 14 آذار في تعاملها مع تلك الحالة الوطنية.

أمام الحراك خطرٌ جدّي لا بد من معالجته والانتباه اليه، وهو عدم الوقوع في المنافسة السياسية على الشارع المسيحي، والدفع باتجاه تلاقي الساحات.

أمام الحراك، وإلى حين تحقيق أهدافه المباشرة (إسقاط الحكومة) الاستفادة من مواقف الأحزاب المؤيدة لمطالبه، والموجودة داخل الحكومة، والممثّلة بوزراء الحزب التقدمي الاشتراكي.