وليد جنبلاط ليس سياسياً بالمعنى اللبناني، إلا بالعَرَض وبفعل المصادفة الفاجعة التي أودت غيلة بحياة المعلم الشهيد سنة 1977.
وعليه، ففي كل أمر، كبيره وصغيره، يظهر تميّز وليد جنبلاط، بل تفرّده - ودون تقصّد منه - بكل السمات التي كان يجب أن لا تجعل منه سياسياً لبنانياً؛ وخارج نادي السياسيين اللبنانيين في أكثريتهم الساحقة المعروفة اليوم ومن الجميع. فشجاعته الاستثنائية، وصراحته الخارقة، وإنسانيته الرفيعة، وتبنّيه منذ أربعين سنة، حتى في ذروة الحرب الأهلية، الدفاع عن البيئة والطبيعة وصغار المزارعين، وعدم تدّخله في أي شأن فيه تجاوز للقانون، حتى لو كان من أقرب المقربين إليه، ثم ضعفه المعروف أمام كل محتاج – أكان في مؤسسة وليد جنبلاط لدعم التعليم الجامعي اللبناني والفلسطيني اللاجئ، أو في مركز جود لمكافحة سرطان الأطفال، أو مع الأب مجدي، أو في أية حالة خاصة تصادفه أو تقابله، وهي بالعشرات – كل ذلك كان يجعله في كوكب آخر غير كوكب السياسيين اللبنانيين في مواقعهم كافة، ويبعده عن مناخاتهم وشواغلهم وطموحاتهم ووسائل لهوهم بمئات السنوات الضوئية.
مع ذلك، فهذه ليست كل سمات تفرّد وليد جنبلاط، بل قل هي جميعها نتاج تفرّد آخر له، مختلف جداً، ونادر جداً، بين السياسيين اللبنانيين وهو: وليد جنبلاط المثقف، العميق، الملتزم، بل العضوي – وفق تعبير أنطونيو غرامشي.
لا أريد في مقالة قصيرة، وفي ظرف لبناني عصيب، أن أدلل على أمر أتكلم فيه للمرة الأولى طوال خمسين سنة من اشتغالي بمهنة الكتابة. أما مناسبة هذا الكلام الآن، فهو أن البعض، من مواقع مختلفة، وبنوايا مخلصة غالباً، لم يفهموا تردد وليد جنبلاط، وعلى حفافي السكاكين في الغالب – وهو ليس تردداً في الواقع بل "تفكّرٌ"، وفق مفردة القرآن الكريم حيث وردت فيه عشرات المرّات ولحكمة لا يجهلها العاقلون. هم لم يفهموا كيف لا يشاركهم وليد جنبلاط حماستهم ومواقفهم الصارخة ضد النظام السياسي ورموزه ومظاهره التي عفا عليها الزمن وباتت عقبة أمام تقدّم لبنان ودون تطلعات أجياله الشابة المحقة التي ضاقت ذرعا بألاعيب الطبقة السياسية وحليفتها الطغمة المالية وفساد كليهما الذي بات يزكم الأنوف. لذلك ينبغي الحفر تحت سطح ما يجري وبحث عن الأسباب الحقيقي هناك.
ما يعنيني جداً في هذه السانحة العصيبة، وما اتصل بها حصراً، الإشارة إلى أن وليد جنبلاط، أكثر من ذلك، ليس مثقفاً عادياً، أو تقليدياً – يقرأ الكثير من الكتب، ويعرف الكثير من الأسماء الأدبية والفكرية التي يقتبس منها أحياناً؛ وبعض سبب ذلك كما أظن هو المدرسة والجامعة ثم المراس الصحافي والفكري الحقيقي ورفقة مثقفين لبنانيين كبار، إلى قراءاته الكثيفة، جعلت من وليد جنبلاط منتمياً بحق إلى مدرسة فكرية مهمة (هي المدرسة المثالية\الواقعية)، وأكثر من ذلك إلى نهج محدد في التفكير والتحليل والاستنتاج هو النهج الجدلي (وأحياناً الديالكتيكي) الذي سمح له في معظم المسائل، ولا يشاركه في ذلك أي منهج تحليلي آخر، برؤية عميقة، شاملة، متوازنة، ومعقّدة. وأشدد على السمة الأخيرة "معقّدة".
هذا التعقيد في منهج وليد جنبلاط الفكري والسياسي، هو ما يجعل من لا قِبَلَ لهم بذلك كلّه لا يفهمون وليد جنبلاط، ولا مواقفه أحياناً.
بعيداً عن الإطالة في هذه الظرف اللبناني، والعربي العصيب، أنهي فأقول أن ما منهج يستطيع تفكيك تعقيدات الحالة اللبنانية البالغة التداخل، فيكشف ما هو غامض من عناصرها، وما هو مزوّر من مظاهرها، وما هو وهمي من تجليّاتها، إلا منهج على هذا القدر من التركيب والتعقيد والمرونة، ومستند في الأصل إلى نظرية مثالية\واقعية، أي شديد التمسك بالمبادئ والمثل من جهة، وتاركة في الآن نفسة مساحة كافية للعناصر والمتغيرات الواقعية والعملية. وهي – كما أعتقد – خصوصية منهج وليد جنبلاط.
آمل من الشباب أن يدرس جيداً هذا المنهج، والمدرسة الفلسفية التي يستند إليها.