Advertise here

وليد جنبلاط الرجل الذي يعتمر قبعة السياسة

11 تشرين الأول 2019 12:54:50

 إن سياسياً واحداً كبيراً في لبنان يكفي لوضع السياسة اللبنانية، أو أية سياسة، على طريق القداسة الرابعة. فما بالكم، إذا كان هذا السياسي هو وليد جنبلاط.

 ذلك الرجل الذي ينصرف كل يوم لرفع منسوب مستوى الوعي بالقضايا المتعلقة بالشأن اللبناني، والعربي والإسلامي، والعالمي، وحتى لضمان معرفتنا بحقوق هذا الوطن التاريخي الصغير، أقلّه بين الدول المعاصرة، الحيتان، التي لا يرفّ لها جفن في ابتلاع البلدان.

أعرف مسبقاً ماذا يعني "البي". وماذا يعني "الصليب". ولكني لا أستطيع أن ألاحظ العلامات الفارقة دفعةً واحدة في شخص رجلٍ يعتمر قبعة السياسة بامتياز منذ نصف قرن، واسمه وليد جنبلاط.

هل تريد بيتاً من الشعر عنه! ساءلت نفسي. فقط صليب. صفصافٌ حزين. مثل هذه الأشياء تصلح لوصفه حين يرى بأم عينيه شعباً يغتسل كل يوم بقذارة حكامه.

وحده وليد جنبلاط، من بين أعواد الطبقة الحاكمة في لبنان، يعرف تماماً أن الفيتامينات المزيلة للتجاعيد، وهو يحدق في وجه الحكم، غدت بلا جدوى. فما عاد نظامه يردّ يد لامس. وأن رجال الدست لم يعد لهم شغل إلّا أن يفكّوا فواصل تشغيل غسالات الدولة المهترئة للخصخصة، أو لبيعها في أحسن الأحوال، أو لفرطها، وبيعها في سوق خردة!

تراه، إذا ما جئته، ممسكاً بكتاب، بكلتا يديه أو بأوراق، أو بقراطيس مبعثرة، على طرسٍ من طروس الأجداد القدماء، أو بمقصٍ ضئيل، أو بقلم نحيل. يقول في نفسه لنفسه: في هذا الزمن  البائس النحس، الكتابة أيضا شغل. لمَ لا. شغلٌ سياسي. شغلٌ ثقافي.

لطالما أشعر به، وهو يهم بالخروج من "لقاء الضرورة" مع  "حكموت" أكثر نقاءً منه، حين يقدم إليه. فكم بوسع المرء أن يصفح لذيله، حين يشتد به الطور أو حين تشتد به الحال. فيسرّ لقلبه ما في قلبه وعقله: لو انتزعتَ دماغه وقذفت به على الجدار، كنفاية.

 يقول في خلوته اليومية، وهو يتسلق صليبه كل غسق، ويتنزل عنه كل شفق: نصفُ قرنٍ وأنا أعيش محنتي، في تلابيب هذا الوطن، وما زلتُ لا أعرف هذا اللّبنان.

فكلّ حكامه منذ غسق الاستقلال حتى اليوم، لا يزالون يتجشأون الأطروحة القديمة نفسها، في سوق البغاء السياسي، أو في سوق البقاء، لا فرق.

كأن الحرية حالةٌ ليست للإنسان. كأن الإستقلال حالة ليست للبنان. كأن الوطن حالةٌ ليست للمواطن. كأن الرغيف ليس للجياع. كأن القميص ليس للّذي "ليس على صدره قميص". بل كأن الماء، والهواء، والحدود، والمزارع، والزروع، والكهرباء، هي فقط للخصخصة، أو للبيع والشراء.

كل يوم يستمع وليد جنبلاط لتصاريحهم، ولخطبهم، ولبلاغتهم ولرطاناتهم. فيضحك ووجهه إلى قفا الشمس، لدى الأفول فوق المختارة: هذا كذب. فقط كذب لنيل جائزة دولة!

لا معنى للمناقشة. لا معنى لذلك أبداً! لن أناقش "رحموت" في كناز "رهبوت".

وحده وليد جنبلاط يعرف الفرق بين ظاهر الغطاء ومقلوبه. وحين يستدير لمحادثه، ويتراجع عن الإقبال إلى الإدبار، كجواد امرئ القيس، تراه يقول: دائماً كنا نتحدث عن كل شيء بعد فوات الأوان!

وعندما تحصره السياسة اللبنانية النازلة من فوق، أو اللاهثة من تحت، داخل زوايا ضيّقة، يختار بين بدائل ما. ولكن هذا لا يعني له بالضرورة، وجود بدائل بمعناها الحر المفتوح على الشفق. 

فمن مكر واقعها تقديم الصورة المأزومة في أشكال جماعات الممانع والمدافع، ورموزهما فقط. غير أنه يرى مواجهة الواقع بصورته الكئيبة، ليس من طينة الما- يحدث منذ زمن طويل. فيُقدم على تحمّل تبعات العنف بكل لطف. ويغسل يديه من الدم المستباح والوطن المباح، ويقول هامساً: إنني بلّغت، اللهم فاشهد! 

حين أشار كانط إلى جرأة استعمال العقل في المجال العام، لم يستثنِ جنود النظام. ولا يعني هذا، أنه يدعم مراوغة السياسة والفكر الإصلاحي، والفكر الحر، والتسلّق على أكتاف الشعب، واستسهال عمليات البيع والشراء، وتغليب المحسوبية، وركوب المواقف والموجات والنعرات الطائفية والعرقية والهوياتية، والموجات المائعة. فالسياسة عند وليد جنبلاط قوة تنوير، وقوة حقوق، وقوة حقيقة للرفض والتحرّر، ومجابهة السلطة وغلبتها الرعناء، لاقتناص أو اقتصاص حقوق الناس بلا رحمة.

تراه يرى، وقد جسّدت السياسة اللبنانية، على مستوى هرم السلطة، نظرية متحركة في تزييف الحرية، والتكسّب من كل الموائد، ومداهنة الحيتان التي تلتهم الأوطان، وإهدار الوعي، وامتهان الخنوع واتّباع سياسة الانبطاح لأجل تكريس وتوريث العرش، فوق رقاب الشعب الغلبان، لا لأجل السمو بلبنان إلى ذرى أرزه، وتحليق نسره، ولا إلى رحلات التنوير التي شقّتها المجاذيف في البحار.

 فليس التحرير، ولا التنوير، ولا الإصلاح ولا التغيير، إلا مجرّد حيلة لاقتناص السلطة، واكتساب مساحةٍ من النفوذ، ولو في ظل واقع مأزوم وموبوء. فليست قرابين الولاء، والطاعة العمياء، إلا للتقزّم الفكري والسياسي، لأجل لملمة الوجود المهترئ، وإعادة صياغته بعد بلوغه حدّ الانفراط والجنون.

في إطارٍ كهذا، نرى وليد جنبلاط، يقلب ظهر المجن لكل ظاهرةٍ منبتةٍ عن غياب أصالة الفكر لدى من ظنوا بأنهم يمثلون نحلة الفكر الحر في الوطن الصغير، وقد رآهم في الوطن ينصبون الأسواق لبيع الأوطان.