Advertise here

الاحتجاجات الشعبية العراقية انتفاضةٌ سياسية أكثر من مطلبية!

10 تشرين الأول 2019 09:47:00 - آخر تحديث: 28 تشرين الثاني 2019 13:08:51

عادت المظاهرات الشعبية تتجدد في العراق انطلاقاً من مدينة الصدر، وذلك بعد تظاهرات الأسبوع الفائت الدامية، والتي سقط فيها أكثر من مئة متظاهر وآلاف الجرحى وفق تقارير محلية ودولية. وفيما تستمر الدعوات لضبط النفس، وعدم استخدام العنف، أعلنت الحكومة العراقية عن حزمةٍ ثانيةٍ من الإصلاحات الاجتماعية في محاولةٍ لتهدئة الشارع بعد أسبوع من الاحتجاجات. وعقد البرلمان أولى جلساته منذ انطلاق الأزمة لمناقشة خطط الإصلاح الحكومية، وذلك في الوقت الذي جدّد فيه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو تنديده بأعمال العنف الجارية في البلاد، داعياً الحكومة العراقية إلى محاسبة "من ينتهكون حقوق الإنسان".
 
المظاهرات الشعبية التي عمّت معظم المدن العراقية بما فيها العاصمة بغداد، كانت قد انطلقت بصورةٍ عفوية مطلع تشرين الأول الجاري في ذكرى مرور عامٍ على تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة عادل عبد المهدي، والتي لم تنجح في معالجة الملفات التي ورثتها من الحكومات السابقة، خصوصاً مكافحة الفساد، والبطالة، وسوء الخدمات العامة، كما لم تنجح في إطلاق ورشة الإعمار.

فالعراقيون، لا سيّما فئة الشباب وخريجي المعاهد والجامعات، استبشروا بحكومة المهدي خيراً بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، وأملوا في معالجة الوضع الاقتصادي المتردي، وانحدار مستوى الخدمات، وتفاقم البطالة، وإطلاق ورشة الإعمار، والخروج من صيَغ المحاصصة الحزبية والطائفية، والولوج إلى دولةٍ عصرية. لكن ارتفاع وتيرة التدخلات الإيرانية، المهيمنة على القرار السياسي، والمتحكّمة بعددٍ من القيادات والأحزاب والجماعات الموسومة بصبغة الفساد، كدّرت حياة المواطن العراقي الذي يئس من العيش وسط الفساد والإهمال والسرقة، حيث صُنّف العراق واحداً من أبرز دول العالم التي ينخرها الفساد، وفق رأي منظمة الشفافية الدولية. 

الاحتجاجات الشعبية العراقية لم تنحصر في بيئةٍ طائفية واحدة، إنما كانت صورةً واقعية عن العراق بأطيافه كافة. والشعارات التي تردّدت في التظاهرات - وأبرزها، "إيران برّا، عراق حرّة حرّة"، والتي أطلقها الموالون للتيار الصدري قبل أن تصدح بها حناجر المحتجّين في كل مكان، ومهاجمة مواقع ومراكز الحشد الشعبي والأحزاب الموالية لإيران - لم ينفذها العراقيون السنّة، ولا طابور ثالث كما ادّعت القيادة الإيرانية، إنما نفّذها الشباب العراقي الغاضب، ممن سئموا الوعود الكاذبة، فالجميع بات يدرك عمق الأزمة التي وصلت إليها البلاد بفعل سيطرة الجماعات الموالية لإيران، والتي باتت بمثابة سلطة داخل السلطة. 
 
مصادر مقرّبة من منظّمي التظاهرات كشفت، في اتّصال هاتفي مع "الأنباء"، أن الاحتجاجات الشعبية العراقية بدأت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ودون تأطير حزبي أو تنظيمي أو تراتبي. وقالت إن، "هذا الزخم والاندفاع الكبير في المشاركة الشعبية، ولا سيّما الشبابية، يشير إلى أن العراق يقف أمام لحظة فارقة استدعت هذا النمط الجديد من الاحتجاجات، متأثراً بدينامياتٍ مشابهة أطلقت احتجاجات البصرة في تموز 2018". 

وأشارت المصادر إلى أن ما يجمع الحركتين هو، "جمهورهما الشبابي المحروم في أغلبيته الساحقة، وممن تكاد أن تقتصر تنشئتهم السياسية على حقبة ما بعد 2003. وهؤلاء اقترن لديهم الدّين السياسي بالفساد والحرمان، والفقر والجوع، والبطالة والذل، وتفتُّت الوطن دون أي متماثلات أيديولوجية منهجية تتوسط هذه العلاقة، وذلك في مقابل انفتاحهم المعلوماتي عبر وسائل التواصل الاجتماعي على تجارب الرفاه والتقدم في بلدانٍ أخرى.
 
ورأت أن، "ما حدث من مواجهةٍ دامية بين جمهورٍ تحرّكه أيديولوجيا غير منهجية، هو مزيجٌ من الكرامة الوطنية المجروحة، والوعي العالي بالحرمان والتهميش والفساد، وذلك بعد أن بلغ مرحلة الاغتراب والقطيعة النفسيَّين مع النظام السياسي، منادياً بإسقاطه كلياً دون شعاراتٍ مطلبية فرعية، وبين سلطة (كومبرادورية) باتت تعي أن احتكارها لوسائل العنف (غير الشرعي) هو الخيار السيكو- سياسي الوحيد المتبقي في ذخيرة شرعيّتها السياسية". ويؤشّر كل هذا إلى اتساع مساحة القاعدة الشعبية المعارِضة للسلطة، والتأسيس لمواجهة تصاعدية مستدامة معها، وإلى القطيعة مع تلك السلطة، ومع مَن يقف خلفها. وقد بدا ذلك من خلال:  

طريقة التعامل العنيفة التي مارستها السلطة، وأعوانها الإيرانيين، مع التظاهرات دون الأخذ بالحسبان أنها احتجاجات شبابية عفوية، ولا جهة منظمة وراءها يمكن تحييدها أو المساومة معها، لا بل اندفعت نحو الممارسة القمعية العنيفة، مستفيدةً من تجارب قوات الباسيج الإيرانية في قمعها للثورة الخضراء في إيران، وهو ما زاد من زخم وارتفاع مستوى التعاطف والتضامن مع تلك الاحتجاجات، وأثبت جدّية وتأثير هذه الحركة في الأوساط الشعبية العراقية، ما شكّل قلقاً كبيراً لدى السلطة في العراق والقيادة الإيرانية، ودفعها إلى حجب وسائل التواصل الاجتماعي، وقطع الإنترنت، ومحاولة لجم وسائل الإعلام، وممارسة العنف المباشر ضد منظّمي التظاهرات تحت أعين المجتمع الدولي.

أدرك الشارع العراقي خطر الدور الإيراني ووقوفه خلف إفقار الشعب، وسرقة الدولة العراقية، ونشر المخدرات، وزرع الفتنة والميليشيات الإرهابية بين الناس، وهو ما أغضب العراقيين، ودفع المتظاهرين إلى إحراق الأعلام الإيرانية، وإطلاق الهتافات المناهِضة لطهران، "إيران برا برا.... بغداد تبقى حرة".

أفرزت الاحتجاجات انقساماً سياسياً داخل النُخب السياسية والتيارات والشخصيات العراقية، وبين مَن يدعم الحكومة ويطالبها بممارسة مهامها لضمان عودة الهدوء، ووقف الاحتجاجات على الفور، فيما طالب البعض الآخر باستقالة عادل عبد المهدي وحكومته، وإجراء الإنتخابات البرلمانية المبكرة في البلاد.

أما زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، فقد دعا الحكومة العراقية إلى التنحي. وطالب بإجراء انتخاباتٍ برلمانية مبكرة تحت رعاية الأمم المتحدة، كما حثّ أعضاء تحالف "سائرون" على تعليق أنشطتهم البرلمانية.

كذلك، فعل "حيدر العبادي" زعيم تحالف "النصر"، ورئيس الوزراء العراقي السابق، والذي وجّه رسالةً مفتوحة على "الفيس بوك"، والتي دعا فيها الشعب والقوى السياسية: "لانتخاباتٍ مبكّرة، وتشكيل حكومة دستورية شرعية قادرة على القيام بمهامها الوطنية بسقفٍ زمني لا يتجاوز 2020، لضمان عدم انسداد الأفق أمام الإصلاحات التي يطالب بها الشعب".

وفيما تتقاطع قراءة المصادر المقرّبة من منظّمي التظاهرات مع قراءة أحد السياسيّين العراقيين المقرّبين من الزعيم الشيعي مقتدى الصدر للأسباب الكامنة خلف شرارة الاحتجاجات، يقول السياسي الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، "إن استبعاد قائد قوات مكافحة الإرهاب، الفريق عبد الوهاب الساعدي من منصبه، شكّل الشرارة التي أشعلت غضب العراقيين، وذلك مع تردّد أنباء عن تدخلٍ إيراني لإزاحة الرجل الذي كان له دورٌ كبير في محاربة تنظيم داعش. الساعدي أصبح الرمز الوطني العراقي الأول بلا منازع. وشيوخ العشائر والضباط والشعب أجمعوا على زعامته الوطنية، وهذا ما أرعب الإيرانيين فأقالوه". أضاف السياسي العراقي: "إيران تريد استنساخ نموذج الحرس الثوري الإيراني في العراق عبر الحشد الشعبي. ولذلك فإن هدفها الأول هو إضعاف الجيش العراقي، أي مثل ما حصل مع الجيش الإيراني تماماً".

الاحتجاجات الشعبية دفعت الحكومة العراقية إلى طرح بدائل اجتماعية. رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي، تعهّد بتخصيص رواتب شهرية للأسر الفقيرة، متحدثاً عن مشروعٍ سوف يقدّمه إلى مجلس النواب خلال فترةٍ قصيرة، "يمنح راتب لكل عائلة، لا تمتلك دخلاً كافياً، بحيث يوفّر حداً أدنى للدخل ويضمن لكل عائلة عراقية العيش بكرامة".

كما قرّرت الحكومة اعتبار الضحايا من المتظاهرين والأجهزة الأمنية، "شهداء، وشملهم بالقوانين النافذة، ومنح عوائلهم الحقوق والامتيازات المترتّبة على ذلك، وتوفير الخدمات العلاجية للجرحى من المتظاهرين والقوات الأمنية، وتوفير كامل الاحتياجات على نفقة الحكومة". هذا إضافةً إلى، "مجموعة من القرارات لدعم أصحاب الدخل المحدود، والعاطلين عن العمل، وتوفير فرص عمل للخرّيجين، ومحاربة الفساد، وإجراء إصلاحاتٍ سياسية وإدارية واسعة".
 
انسداد الأفق، وعدم الثقة بالوعود التي قطعتها الحكومة نتيجة المقاربة الأمنية التي تعتمدها في التعامل مع المحتجّين، لا توحي بعودة الشارع العراقي إلى حياته الطبيعية خلال أيام، "فهؤلاء الشباب الذين يواجهون الرصاص بصدورهم العارية"، ينظرون إلى الإجراءات الحكومية على أنها مجرد "حلول ترقيعية"، ولا تغيّر في واقعهم المعيشي أي شيء.

لقد كشفت الاحتجاجات الشعبية أزمة "الشرعية" بمفهومها الوطني، حيث بدأت تتشكل في، "الفضاء العمومي العراقي"، شرعية شعبية مقابل تآكل شرعية النظام السياسي الحالي العاجز عن الإيفاء بالحد الأدنى من متطلبات العدالة الاجتماعية، والسيادة الدولتية (وسيادة الدولة)، والعزة الوطنية، والأمن المجتمعي في ضوء فشل الكتل النيابية (المستقلة) التي فازت في الانتخابات الأخيرة لتشكّل صورة هذه الشرعية الشعبية في النظام السياسي، لكنها غرقت في بحر "الغلواء السياسي الوهمي" الذي أبعدها عن واقعها الشعبي، نتيجة تغطيتها، أو مجاراتها، لقوى اللا - شرعية التي أوجدتها هيمنة القوة الإيرانية المتغلغلة في الشرعية الرسمية للنظام العراقي، والتي قد تطيح بهذا النظام، وتنقلب عليه في أي لحظةٍ سياسيةٍ إقليمية تستدعيها ضرورة المواجهة الإيرانية – الأميركية، أو الإيرانية – السعودية، أي كما حصل في اليمن مع الحوثيين.

كما بيّنت الاحتجاجات إمكانية بزوغ بريق أملٍ وطني عراقي جديد، والذي تمثّل في التفاف جميع الشباب، باختلاف انتماءاتهم المذهبية، خلف الشعارات الوطنية الجامعة، "الحرية، الاستقلال، العيش الكريم، محاربة الفساد"، وهي شعارات تتجاوز القيود الطائفية البغيضة المتغلغلة في الحياة السياسية العراقية منذ سنوات.