Advertise here

جاك شيراك زعيم فرنسي يسكن في وجدان العرب

01 تشرين الأول 2019 19:49:40

شيراك كان صديقا مخلصا وشريكا ليس فقط مع العراق والفلسطينيين ولبنان وتونس، بل كذلك مع مصر والدول العربية في شمال أفريقيا والخليج، وترك بصماته على السياسات العربية لفرنسا طويلا.

تنطوي مع تشييع الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك صفحة من تاريخ فرنسا والعالم. رحل آخر الديغوليين بعد مسار غني ومثير على مدى نصف قرن تقريبا، وترك بصماته على السياسة الدولية محافظا على موقع فرنسا في محفل الأمم خاصة عندما وقف ضد حرب العراق مدافعا عن الشرعية الدولية المناقضة لتمجيد القوة. وليس من المبالغة بشيء أن يصفه بعض عارفيه وأصدقائه أنه “كان عربيا أكثر من بعض العرب ولبنانيا أكثر من بعض اللبنانيين”.

وكما كان “شيراك العربي” وشيراك “صديق العرب” مميزا، كان استثنائيا أيضا في قول كلمة “لا” على أكثر من صعيد؛ من أجل فرنسا كي تراجع تاريخها وتتخطى الشرخ الاجتماعي، ومن أجل عولمة أكثر إنسانية ونظام عالمي متعدد الأقطاب.

توفي شيراك عن عمر ناهز 86 عاما، وكانت حياته السياسية حافلة بمحطات امتدت من بدايات التزامه اليساري إلى زعامة الحزب الديغولي “التجمع من أجل الجمهورية” ووصفه خليفة ديغول جورج بومبيدو بأنه “شيراك الجرافة”.

وبالفعل لم يتردد هذا الشخص الفارع القامة وصاحب الشهية الكبيرة في السياسة والمأكل في القيام بالمناورات ومواجهة الخيانات ورد الطعنات في منازلة مفتوحة أتاحت له بعد محاولتين فاشلتين الوصول إلى قصر الإليزيه في 1995. وكان شيراك استثنائيا في رحلة صعوده إذ من النادر أن تجمع شخصية واحدة رئاسة البلاد لمدة 12 عاما مع منصب عمدة باريس ومواقع نيابية ورئاسة الحكومة.

مع تحولات العصر

ولكن قبل كل شيء كان “شيشي” وهو لقبه الشعبي، ذاك الساحر الجماهيري الذي حرص على الالتصاق بالناس ومصافحتهم، وكان فلاحا مع الفلاحين وارستقراطيا في القصور ومن هواة رياضة السومو ومشجعي كرة القدم وهواة الفنون الأولية والحضارات القديمة مع إبقاء هذا الجانب المثقف من شخصيته خفيا من دون دعاية.

يعتبر الكثير من المراقبين للحياة السياسية الفرنسية أن شيراك كان آخر الرؤساء الكبار في المرحلة المعاصرة، وربما في هذه المقاربة حنين لبدايات الجمهورية الخامسة قبل نهاية السنوات الثلاثين السمان وبدء مراحل المتاعب الاقتصادية وتأقلم فرنسا مع تحولات أوروبا والعالم.

وبالفعل كان شيراك رئيس تلك المرحلة الانتقالية. إذ واكب رحلة اليورو وتوسيع الاتحاد الأوروبي وكان متعلقا بأفريقيا وبالبعدين المتوسطي والأفريقي للسياسة الخارجية الفرنسية، كما تفاعل وواكب مرحلة ما بعد الحرب الباردة وحدث الحادي عشر من سبتمبر كما حرب العراق ومعاناة لبنان وتعرجات المسألة الفلسطينية.

هذا الطغيان في الحضور العالمي آخذه عليه البعض نظرا لعدم قدرته على تحقيق إنجازات داخلية لصعوبات التوافق على الإصلاح أو لعوامل بنيوية مرتبطة بالتعطيل أو مقاومة بعض الفئات. ركز منتقدو شيراك على أن هذا “الديغولي الحائر بين اليسار واليمين” افتقر إلى قناعات عميقة، لكنهم تناسوا أنه اتخذ قرارات صعبة في حياته كمتمرد عندما كان من النواب اليمينيين القلائل الذين صوتوا إلى جانب إلغاء عقوبة الإعدام في العام 1981، وفي ظل رئاسته للحكومة مررت سيمون فيل قانونها الذي يسمح بالإجهاض، وكان طوال ممارسته رافضا لكل تحالف أو مساومة مع اليمين المتطرف والعنصري. وعندما كان رئيسا ألغى الخدمة العسكرية الإلزامية وقلص مدة الولاية الرئاسية من سبع إلى خمس سنوات كي يجدد شباب الجمهورية الخامسة.

لكن بخلاف سلفيه ديغول وميتران، تجرأ شيراك وأعلن الاعتراف بمسؤولية الدولة الفرنسية، وليس جمهورية فيشي وحدها، عن “ترحيل اليهود والتعاون مع النازية”. وبالطبع كان يود الذهاب أبعد في المصالحة مع الجزائر، لكن الظروف لم تكن ناضجة لتوقيع “معاهدة صداقة” أراد توقيعها خلال زيارته الناجحة في العام 2003 وعرقلها طلب الجزائر من فرنسا التوبة وعدم الاكتفاء بعرض تنقية الذاكرة عند الجانبين.

بيتنا العالم يحترق
برز شيراك على الساحة الدولية بمعرفته عن كثب للعديد من رؤساء الولايات المتحدة وقادة العالم والسياسيين فيه، لكنه فاجأ الجميع مرارا خاصة خلال مطالبته بفرض رسم على بطاقات الطيران من أجل مساعدة الفقراء في العالم أو عند وقفته الشهيرة في قمة جوهانسبورغ حول التغير المناخي في العام 2002 عندما أطلق نداء النجدة “بيتنا يحترق ونحن نتطلع جانبا”.

واليوم على ضوء آثار تغيير المناخ الكارثية وصرخة الشابة غريتا تونبرغ من على منبر البيت الزجاجي يتضح كم كان الرئيس الفرنسي الاستثنائي “حكيما ورؤيويا” كما وصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. في أكثر من موقع، وعند الكثير من المنعطفات، قال شيراك تلك الـ”لا” في اللحظة المناسبة. يتذكر كل العالم صوره في القدس الشرقية عندما اصطدم بالأمن الإسرائيلي رافضا تواجده في أرض محتلة وذلك لتأكيد موقف فرنسا المساند لحل الدولتين ومنح الفلسطينيين حقوقهم.

وعند حصول اعتداءات 11 سبتمبر أعرب شيراك عن تضامنه الكامل ضد الإرهاب، لكنه لفت نظر الرئيس جورج بوش الابن إلى عدم اعتماد المقاربة التقليدية في الحرب الكلاسيكية ووجوب خوض معركة أمنية وأيديولوجية وتنموية مع هذه الآفة. بيد أن الـ“لا” الشهيرة ضد حرب العراق تبقى الأكثر تعبيرا عن حقبة شيراك وأثره الدبلوماسي، وحينها صارح أحد المقربين منه أن “فرنسا لن تدعم حربا غير شرعية وستبقى منارة للعالم في احترام الشرعية الدولية وحقوق الناس“، ولم تكن المواجهة سهلة لكن شيراك وفريقه كسباها دبلوماسيا وقد أنصفه التاريخ وتبين أنه على حق لأن حرب العراق كانت الزلزال الذي دشن مرحلة عدم الاستقرار واهتزاز التوازنات في الشرق الأوسط.

رجل فرنسا العميقة

 كان شيراك صديقا مخلصا وشريكا ليس فقط مع العراق والفلسطينيين ولبنان وتونس، بل كذلك مع مصر والدول العربية في شمال أفريقيا والخليج، وترك بصماته على السياسات العربية لفرنسا طويلا. ويلتصق اسمه بالذاكرة اللبنانية ليس فقط بسبب الصداقة القوية التي ربطته برئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، بل لتعلقه بلبنان كمختبر حضاري ونموذج للتعددية والحرية في محيطه. وكان مواكبا لنهاية حروب لبنان وإعادة إعماره، وبنى صلات مع الحكم في دمشق لتخفيف الضغط على لبنان، ووقف إلى جانب بلد الأرز إبان الحروب مع إسرائيل في 1996 كما في 2006 وعمل على صيانة كيانه ووحدة أراضيه، وكان تحرر لبنان من الوصاية السورية والوجود العسكري السوري في العام 2005، بعد اغتيال الحريري، من خلاصات تنسيقه مع واشنطن ومصالحته لها بعد الخلاف حول العراق.

كتبت صحيفة لوجورنال دو ديمانش أن “شيراك لم يكن بالتأكيد ملاكا. هذا المحب للحياة تجاوز بالتأكيد الخطوط، وكان ذلك ثمن السعي وراء السلطة“. ويقال في باريس إن كثيرين اعتبروا أن الوقت غير مناسب للحديث عن تورط شيراك الذي كان أول رئيس دولة فرنسي سابق يصدر بحقه حكم جزائي بالسجن سنتين مع وقف التنفيذ، في قضية الوظائف الوهمية في بلدية باريس. إضافة إلى اتهام السير ريتشارد ديرلوف، رئيس سابق لاستخبارات بريطانيا، لشيراك ببناء علاقة سياسية غامضة مع الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، لكن من يعرف خفايا السياسة الفرنسية يدرك أن شيراك نسج خلال فترة وجوده في منصب عمدة باريس علاقات تاريخية واستراتيجية هامة، ليست بلا دلالة. فقد كان لصداقته مع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات الراحل، دور كبير في انتزاع فرنسا من الحضن الأميركي البريطاني، وانعكس هذا بشكل واضح على الموضوع العراقي، ويعلم قليلون أن المبادرة التي أطلقها الشيخ زايد لإنقاذ العراق من الغزو الأميركي، كانت بتنسيق تام ما بينه وبين شيراك.

شيراك وإيران

العلاقة الوثيقة التي بناها شيراك مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، حين كان أميرا للعاصمة السعودية والتي تجلت في إقامة أول معرض لمدينة الرياض في قلب باريس، كانت أيضا تصب في المنحى ذاته، والذي يرى منه شيراك خطر الإيرانيين، وفكرة تصدير الثورة الإسلامية التي رفعتها طهران في وجه العالم. ولذلك كان موقفه منذ البداية داعما لكل جهد يوقف ذلك الخطر.

شيراك الذي حافظ على صداقاته العربية مدعما إياها بموقف هام من القضية الفلسطينية وعلاقة مميزة مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، لم يتردد في الدخول إلى القدس الشرقية لزيارة دير فرنسي قديم فيها، ومنع الإسرائيليين من الدخول معه آنذاك.

غضب الأميركيون من شيراك لمواقفه، وكان يروي بنفسه كيف حاول الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن إقناعه بشن الحرب على العراق من خلال قوله “يا فخامة الرئيس شيراك إن حرب أرماغيدون اقتربت ويجب علينا أن نحتل العراق بأسرع وقت”، وكان شيراك يسخر من ذلك ومن العقيدة الماورائية التي آمن بها بوش. فشن الأميركيون حربا عنيفة موازية لحربهم على العراق، على شيراك والثقافة الفرنسية ذاتها، عبرت كل الحدود والمستويات حتى وصلت إلى درجة أنهم منعوا استخدام اسم “البطاطس الفرنسية” في مطاعم الكونغرس انتقاما من شيراك.

أحرقت إيران شوارع باريس ونفذت سلسلة عمليات إرهابية استهدفت فرنسا انتقاما من سياسة شيراك ضدها، ولم ينته هذا الصراع إلا حين أرسل شيراك رجل المخابرات الفرنسي الشهير الجنرال فيليب روندو إلى دمشق.

ولكن بعد غزو العراق اعتبر شيراك أن النظام السوري خانه، بعد أن اتفق مع الرئيس بشار الأسد على الوقوف إلى جانبه في وجه الغزو الأميركي للعراق، ليكتشف أن السوريين كانوا ينسقون مع الأميركيين ويسهلون مهماتهم، وأكثر من ذلك سارعوا إلى طرد المسؤولين العراقيين الذين التجأوا إلى سوريا بعد الغزو، وبدلا من دعم موقف شيراك، فتحت دمشق الحدود العراقية السورية لقوافل الجهاديين.

هذا الوضع الذي تتلاقى فيه مصالح باريس وواشنطن خلق مصالحة تاريخية ما بين الأميركيين وشيراك، ولكن هذه المرة ضد الوجود السوري في لبنان، ولإنهاء وصاية الأسد على ذلك البلد وضد حزب الله الذراع الإيرانية في لبنان. وتجسد ذلك بالقرار الأممي 1559. كاد شيراك حينها يتوصل إلى اتفاق أفضل من اتفاق أوباما مع الإيرانيين، لولا سلسلة خسائره التي بدأت مع صدام حسين ووصلت إلى رفيق الحريري.

ولا يمكن نسيان أن العلاقة الفرنسية المغربية وصلت في عهد شيراك إلى أن تستعرض القوات الملكية المغربية قواها في فرنسا في اليوم الوطني، وذلك يعكس مدى التطور الهائل الذي أدخله شيراك على تلك العلاقة التي شابها الكثير في الماضي. لهذا كله كان طبيعيا رفض عائلة شيراك لمشاركة زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان في جنازته، وهو الذي كان يحتقر التعصب الذي يعبر عنه اليمين المتطرف.

شيراك الملتصق بفرنسا العميقة والذي يترك وراءه ظلالا غير معروفة عن شخصيته ونزعة إنسانية لافتة، كان رمزا لحقبة من تاريخ فرنسا وكان يشبهها بتناقضاته وتبدلاته ولكنه فوق كل ذلك كان وفيا لفكرته عن فرنسا المتمسكة بقيمها ودورها في عالم أكثر تعقيدا.

*أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك - باريس