كمال جنبلاط: المثالي الواقعي... صورة مثقّف يراهن على الجدليّة بين الطموح والممارسة
23 أيلول 2025
12:29
Article Content
سياسيّ بالفطرة.. فيلسوف بالاختيار
هل يمكنُ للسياسيِّ أن يكونَ فيلسوفًا، وللمثاليِّ أن يبقى واقعيًّا؟ هذا السؤالُ يُلخّصُ جدليّةَ كمالِ جنبلاط كما قدّمها الدكتورُ عفيفٌ فراج في كتابه كمال جنبلاط: المثالي الواقعي. ففي دروبِ الفكرِ والسياسةِ العربيّة، نادرًا ما نجدُ شخصيّةً تُجسّدُ التناقضَ الخلّاقَ بين المثاليّةِ الطموحةِ والواقعيّةِ المرهفةِ كما فعل جنبلاط، ونادرًا أيضًا ما نجدُ كاتبًا تناولَ هذه الشخصيّةَ بهذا العمقِ النقديِّ والاتّزانِ الفكريِّ مثلَ فراج. فهو لم يكتفِ برصدِ مسيرةِ زعيمٍ سياسيٍّ، بل غاصَ في أعماقِ فكرِه الثقافيِّ والعرفانيِّ والفلسفيّ، مقدّمًا رؤيةً لا تُحابي ولا تُمجّد، بل تُحلّل وتُوازن.
عفيف فراج: المثقّف الموسوعيّ
قبل الدخولِ في مضامينِ الكتاب، من الضروريِّ التوقّفُ عند شخصيّةِ مؤلّفِه. عفيفٌ فراج يُوصَف بأنّه "مثقّفٌ موسوعيٌّ متعدّدُ الأبعادِ ومتنوّعُ الميادين". كان كاتبًا وناقدًا لبنانيًّا اتّصفَ بأسلوبِ كتابةٍ خاصّ، حيث كان "يكتبُ بأناةٍ وكأنّه يحفرُ في الصخر"، جامعًا بين الدقّةِ والعمق. من أبرزِ مؤلّفاتِه: المرأة بين الفكر والإبداع، واليهوديّة بين حضانة الشرق الثقافيّة وحضانة الغرب السياسيّة، وإشكاليّة النهضة.
كان يؤمنُ بأنّ "الحياةَ بعمقِها، لا بطولِها"، وأنّ "الأفعالَ العظيمةَ هي التي تكتبُ صاحبَها في الأدب، وتُرسّخُه في الذاكرةِ والوجدان". هذه النظرةُ الفلسفيّةُ للحياةِ والفعلِ منحت فراجَ قدرةً على تقديم قراءةٍ ثريّةٍ لشخصيّةٍ معقّدةٍ مثلَ كمالِ جنبلاط، الذي جمعَ في مسارِه بين المثاليّةِ الروحيّةِ والواقعيّةِ السياسيّة.
جدليّة المثاليّ والواقعيّ في فكر جنبلاط
يرى فراج أنّ جنبلاط عاشَ جدليّةً مستمرّةً بين المثالِ والواقع، مستمدًّا جذورَها من الفلسفاتِ القديمة: من أفلاطون إلى فيثاغورسَ وهيرقليطس، ومن العرفانِ الشرقيِّ إلى الفلسفةِ العقليّة. كان شاغلُه الأكبر هو "متابعةُ تجلّي الفكرِ في الواقع، والارتقاءُ بالواقعِ إلى مصافِّ المثالِ على قاعدةِ الجدليّةِ الأساس: جدليّة الخيرِ والشرّ، والنورِ والظلمة".
هذه الجدليّة لم تَبقَ عند جنبلاط في حيّزِ النظر، بل أصبحت منهجًا عمليًّا في حياتِه السياسيّة. لقد جمعَ بين رؤيةٍ مثاليّةٍ لا تستسلمُ للمألوف، وبين إدراكٍ عميقٍ لحدودِ الواقع، باحثًا دائمًا عن فرصِ التقدّمِ الممكنةِ ضمنَ شروطِه. وهنا تتّضحُ قوّةُ الكتاب: فراج لا يضعُ جنبلاط في قفصِ المثاليّةِ الحالمة، ولا يختزلُه في براغماتيّةٍ سياسيّةٍ ضيّقة، بل يقرأُه في التوتّرِ الخلّاقِ بينهما.
جنبلاط والسياقُ التاريخيّ الصعب
لا يمكنُ فهمُ فكرِ جنبلاط بعيدًا عن سياقِه التاريخيّ. فقد كان شخصيّةً محوريّةً في الحربِ الأهليّةِ اللبنانيّة، وقادَ التحالفَ اليساريَّ الإسلاميَّ الفلسطينيَّ قبل أن يُغتالَ عامَ 1977. كان واقعُه مثقلاً بـ"التحدّي المارونيّ" و"الصاعق الفلسطينيّ" و"الشرك السوريّ"، كما وصفتْه بعضُ الكتابات. وسطَ هذا المشهدِ المأزوم، كان على جنبلاط أن يُوازنَ بين رؤيتِه المثاليّةِ الثوريّة وبين متطلّباتِ العملِ السياسيِّ اليوميِّ في ساحةٍ متفجّرةٍ بالانقسامات.
الأمّة والعقل: الهويّة في فكر جنبلاط
في فصلٍ مهمٍّ من الكتاب، يتناولُ فراج مسألةَ القوميّة عند جنبلاط. لم يرَها مجرّدَ مشاعرَ أو انفعالٍ عاطفيّ، بل "جوهرًا عقليًّا" قائمًا على الوعيِ والمسؤوليّة. يقولُ فراج: "القوميّةُ من وجهةِ نظرِ جنبلاط ليست مجرّدَ إحساسٍ وجدانيّ، بل التزامٌ عقليٌّ بتحليلِ العقبات، وفهمِ العدوِّ الاجتماعيِّ والسياسيّ، وبناءِ رؤيةٍ قابلةٍ للتطبيق".
هنا يظهرُ التوازنُ بين المثاليّ والواقعيّ: فالحبُّ للأمّة لا يكفي، بل لا بدّ من عقلانيّةٍ تُفكّكُ المشكلاتِ وتبني حلولًا قابلةً للتحقّق.
الجذور العرفانيّة والفلسفيّة لفكر جنبلاط
يُبرزُ الكتابُ أيضًا الجذورَ العرفانيّةَ العميقةَ التي شكّلت وعيَ جنبلاط. ففي مؤلَّفِه في مسالك العرفان: على خطى هرمس الهرامسة، يشرحُ الزعيمُ الصلةَ بين حكمةِ الهندِ وحكمائِها وبين حكمةِ الموحّدين الدروز. وقد شدّد هناك على أنّ "ضرورةَ الارتكازِ الروحيِّ العميقِ في الحياة... وإلّا لا قيمةَ ولا سعادةَ ولا إفادةَ فيها".
هذا البُعدُ الروحيّ يُفسّر كيف استطاعَ جنبلاط أن يحافظَ على مثاليّتِه وسطَ صخبِ السياسةِ وصراعاتِها، وأن يرى في العملِ السياسيِّ امتدادًا لرؤيةٍ إنسانيّةٍ أعمق.

القمعُ السياسيّ كعائقٍ أمام المشروعِ القوميّ
من أبرزِ النقاطِ التي يتوقّفُ عندها فراج تحليلُه لدورِ الأنظمةِ القمعيّةِ في تعطيلِ المشروعِ القوميّ. فهو يُشيرُ إلى أنّ "القمعَ السياسيَّ الناصريَّ كان سببًا داخليًّا إضافيًّا لفشلِ الوحدةِ العربيّة وفشلِ المواجهةِ مع الصهيونيّة". وهنا يبرزُ إدراكُ جنبلاط لتعقيداتِ الواقع: المثاليُّ لا يمكنُه أن يُغفلَ القوى الظالمةَ التي تفرضُ قيودًا على الشعوب، وتُفشلُ المشاريعَ الكبرى رغمَ صدقِ نواياها.
دروسٌ مستفادةٌ للأجيالِ الحاليّة
ورغم أنّ الكتابَ صدرَ قبلَ عقود، إلّا أنّ قراءةَ فراج التحليليّة تُقدّم أدواتٍ لفهمِ الحاضرِ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، ممّا يجعلُ دروسَه التاليةَ ضرورةً للمثقّفِ والسياسيِّ المعاصر:
1. أنَّ القيادةَ الحقيقيّةَ لا تقومُ على السلطةِ فقط، بل على الضميرِ الحيّ.
2. أنَّ الموازنةَ بين الطموحِ والجَدوى السياسيّة ممكنة، إذا استندت إلى عقلانيّةٍ واضحة.
3. أنَّ احترامَ القيمِ والرُّوح لا يتعارضُ مع التعاملِ الواقعيِّ مع تحدّياتِ السياسة.
4. أنَّ السياسةَ ليست مجرّد لعبةِ أطراف، بل صراعٌ على الهويّةِ والعدلِ والكرامة.
إنّ كتاب كمال جنبلاط: المثالي الواقعي لا يُقدّمُ سيرةَ رجلٍ سياسيٍّ فحسب، بل يضعُ أمامَ القارئ صورةَ مثقّفٍ وزعيمٍ عاشَ جدليّةَ المثاليّةِ والواقعيّة، وحاورَ الواقعَ بدلَ أن يخضعَ له. وعفيفٌ فراج، بهذا العمل، لم يُخلّدْ فقط سيرةَ زعيمٍ لبنانيّ، بل أيقظَ فينا روحًا فكريّةً تُلزمُنا بأن نسأل: كيف نكونُ مثاليّين واقعيّين في لبنانَ اليوم، وهو السؤالُ الذي ما زال جنبلاط يطرحه علينا من صفحاتِ التاريخ، بعيدًا عن التقديسِ أو التجهيل؟
ربّما ما أحوجَنا اليومَ إلى قراءةِ جنبلاط بعينِ فراج، كي نستعيدَ المعادلةَ الصعبة: أن نعيشَ المثالَ ونحاورَ الواقعَ، دونَ أن نُضيّعَ البوصلةَ أو نستسلمَ لعجزِ اللحظة.
إعلان
يتم عرض هذا الإعلان بواسطة إعلانات Google، ولا يتحكم موقعنا في الإعلانات التي تظهر لكل مستخدم.






