ترامب ومعضلة حسابات موسكو الاستراتيجية في أوكرانيا
11 آب 2025
08:16
Article Content
في أوائل عام 1994، وصف مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق زبيغنيو بريجنسكي أوكرانيا المستقرة بأنها ثقل موازن ومحور حاسم لروسيا، وكتب في مجلة "الشؤون الخارجية الأمريكية": "إن روسيا بدون أوكرانيا، لن تعود إمبراطورية". في ذلك الوقت، كان يسود اعتقاد لدى عدد من السياسيين الروس بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، بأن انفصال أوكرانيا يُعتبر خطأً تاريخيًا وتهديدًا لمكانة روسيا كقوة عظمى، وأن تركها تدور في فلك الغرب سيشكل ضربة موجعة لهيبة روسيا الدولية.
فقد كانت أوكرانيا حجر الزاوية في الاتحاد السوفيتي، وثاني أكبر جمهورياته من حيث عدد السكان والقوة، وموطنًا لمعظم الإنتاج الزراعي والصناعات الدفاعية والجيش في الاتحاد، بما في ذلك أسطول البحر الأسود وبعض الترسانة النووية. وعندما قررت كييف عام 1991 قطع العلاقات مع موسكو بعد استقلالها، شكل ذلك ضربة قاسية للقوة العظمى المتعثرة.
وبعد استقلالها، بقيت أوكرانيا الشريان الحيوي لموسكو لضخ غازها إلى عملائها في وسط أوروبا وشرقها لعقود، ودفعت لكييف مليارات الدولارات سنويًا كرسوم عبور. واستمر تدفق الغاز الروسي عبر أوكرانيا حتى أوائل عام 2023 رغم الأعمال العدائية بين البلدين، لكن الكميات انخفضت وظلت خطوط الأنابيب في خطر شديد.
وفي عقودها الثلاثة منذ الاستقلال، سعت أوكرانيا إلى شق طريقها كدولة ذات سيادة، والتحالف مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، لتتحول إلى ساحة معركة عام 2014 عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم التي كان الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف قد نقل السيادة عليها عام 1945 من روسيا إلى أوكرانيا لتعزيز "الروابط الأخوية بين الشعبين الأوكراني والروسي".
وكان يعيش في أوكرانيا نحو ثمانية ملايين روسي، واعتبرت موسكو أن من واجبها حمايتهم، فكان ذلك سببًا لتدخلها في شبه جزيرة القرم ودونباس عام 2014، الأمر الذي اعتبره الغرب كأول حدث من نوعه في أوروبا تقوم فيه دولة بضم أراضي دولة أخرى، منذ الحرب العالمية الثانية.
وعلى الرغم من بقائها خارج حلف الناتو، عززت أوكرانيا علاقاتها معه خلال السنوات التي سبقت غزو عام 2022. فقد أجرت مناورات عسكرية سنوية مع الحلف، وأصبحت عام 2022 واحدة من ستة شركاء فقط ضمن برنامج "شركاء الفرص المعززة"، وهو وضع خاص لأقرب حلفاء الحلف من الدول غير الأعضاء.
في الأسابيع التي سبقت غزوها، قدمت روسيا مطالب أمنية عدة للولايات المتحدة وحلف الناتو، بما في ذلك وقف توسيع التحالف، والسعي للحصول على موافقة روسيا على عمليات نشر معينة للحلف، وإزالة الأسلحة النووية الأمريكية من أوروبا. فأبدى التحالف الغربي انفتاحه على دبلوماسية جديدة، لكنه رفض مناقشة إغلاق أبواب الناتو أمام أعضاء جدد. وذلك في وقت كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعمل على استعادة هيبة روسيا كقوة عظمى في شمال أوراسيا، ويحذر من أن أي خطوات لضم أوكرانيا إلى حلف الناتو "ستكون عملًا عدائيًا تجاه روسيا".
وكان بوتين قد نشر في تموز 2021 مقالًا اعتبره عدد من خبراء السياسة الخارجية الغربيين نذير شؤم، يشرح فيه آراءه حول التاريخ المشترك بين روسيا وأوكرانيا. ومن بين ملاحظاته، وصف بوتين الروس والأوكرانيين بأنهم "شعب واحد" يتشاركون فعليًا "الفضاء التاريخي والروحي نفسه".
وألقى في العام نفسه خطابًا حذر فيه الغرب مرارًا وتكرارًا من وجود "خطوط حمراء" لن تقبلها روسيا. وتكررت هذه التحذيرات في مناسبات عدة حتى تاريخ الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط 2022، حيث اعتبرت روسيا أن انضمام أوكرانيا المحتمل إلى الناتو هو "خط أحمر".
وخلال مكالمة هاتفية في كانون الأول 2021 مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، أبلغ بوتين نظيره الأمريكي "بضرورة رفض سعي أوكرانيا للانضمام إلى الناتو مقابل تأكيدات بأن القوات الروسية لن تنفذ هجومًا".
ورفض الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ طلب روسيا بالتراجع عن تعهد الحلف في عام 2008 بالسماح لأوكرانيا بالانضمام، مصرحًا: "علاقة الناتو مع أوكرانيا سيقررها حلفاء الناتو وأوكرانيا وحدها".
ومع ارتفاع منسوب الصراع مع الغرب، شرعت موسكو في شباط 2022 في غزو واسع النطاق لأوكرانيا بهدف الإطاحة بحكومة فولوديمير زيلينسكي الموالية للغرب، حيث اعتبر الكرملين ذلك جزءًا من صراع أوسع ضد القوى الغربية "العازمة على تدمير روسيا"، ليشكل ذلك تصعيدًا حادًا للصراع المستمر منذ ثماني سنوات، وذروة الاستياء الروسي من توسّع حلف شمال الأطلسي بعد الحرب الباردة، ليشمل منطقة نفوذ الاتحاد السوفيتي السابق.
واعتبر بوتين في حينه أن الولايات المتحدة وشركاءها الغربيين قد تجاوزوا "خطًا أحمر" يتعلق بأوكرانيا، وأن ذلك أدى إلى "العملية العسكرية الروسية الخاصة" ضد أوكرانيا، مبررًا إياها بالتهديد الذي فرضته أوكرانيا على وجود روسيا الاتحادية.
واتخذت القوى الغربية خطوات عدة لزيادة المساعدات لأوكرانيا ومعاقبة روسيا على هجومها عام 2022. وقدمت الولايات المتحدة وعدد من دول الناتو مساعدات عسكرية متطورة لأوكرانيا تشمل أنظمة الصواريخ والقذائف، والمروحيات، والطائرات المسيرة، والدبابات.
وأمام هذا الواقع، تتجه الأنظار للقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نظيره الروسي يوم الجمعة المقبل في ولاية ألاسكا لبلورة اتفاق ينهي الحرب المستعرة في أوكرانيا منذ أكثر من عامين، إلا أن الآمال المشوبة بالحذر تبقى معقودة على إحداث خرق سياسي في ظل مخاوف من عقبات تعيد الأزمة إلى نقطة الصفر، وسط أجواء مشحونة بتصريحات متناقضة ومطالب متباينة بين الأطراف المعنية حول قضايا السيادة والأراضي.
وإذا كان الرئيس الأوكراني قد أبدى في التاسع من الشهر الجاري استعداده للانخراط في مفاوضات "تفضي إلى قرارات حقيقية تحقق السلام"، لكنه شدد على رفضه التام للتنازل عن أي جزء من الأراضي الأوكرانية، في وقت تشير تقارير إلى أن روسيا تسيطر حاليًا على نحو 20% من الأراضي الأوكرانية شرق البلاد، تضم لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون، إضافة إلى شبه جزيرة القرم التي ضمتها عام 2014.
إلا أن بوتين الذي يبدي (وفق مصادر صحيفة وول ستريت جورنال) استعدادًا لتقليص مطالبه، بحيث تقتصر على دونيتسك ولوغانسك والقرم، متراجعًا عن مطلبه السابق بضم مناطق أخرى كان قد أعلن ضمها.. يشترط وقف الدعم العسكري والاستخباراتي الغربي لأوكرانيا وضمان عدم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو).
في المقابل، يسعى البيت الأبيض وفق خطط سلام متداولة للضغط على بوتين بغية التخلي عن بعض مطالبه، وفتح الباب أمام تسوية أكثر قبولًا لدى كييف، وإقناع القادة الأوروبيين بقبول اتفاق يعيد بعض الأراضي الأوكرانية من روسيا، ومنح موسكو في الوقت نفسه أجزاء من المناطق المتواجدة فيها، وهو أمر يعتبره زيلينسكي "خطًا أحمر" غير قابل للتفاوض.
وإذا كان الملف الاقتصادي أداة ضغط أساسية بيد واشنطن لتحريك القضايا العالقة، حيث هدد ترامب الشهر الماضي بفرض عقوبات جديدة ورسوم على الدول التي تشتري النفط الروسي إذا لم يُبدِ الكرملين مرونة نحو التسوية، فإن فرض عقوبات جديدة قد يدفع بوتين إلى إلغاء المحادثات قبل بدئها.
وتبقى فرص التوصل إلى اتفاق غير مؤكدة، إذ تصطدم المبادرات الدبلوماسية بخطوط حمراء أوكرانية، وحسابات استراتيجية روسية، وضغوط أمريكية متشابكة بين الاقتصاد والسياسة. غير أن ترامب، الذي نشر كتابًا في عام 1987 بعنوان "فن الصفقات"، يأمل بتحقيق اختراق يحافظ على صورته كـ"صانع صفقات" بارع، مستشهدًا بسجل من الوساطات الناجحة، آخرها التوصل إلى هدنة بين أرمينيا وأذربيجان.
إعلان
يتم عرض هذا الإعلان بواسطة إعلانات Google، ولا يتحكم موقعنا في الإعلانات التي تظهر لكل مستخدم.






