رقصة الدراجات النارية
05 حزيران 2025
07:49
آخر تحديث:05 حزيران 202507:51
Article Content
في آخر مؤتمر "للكومسمول اللينيني" او منظمة الشباب الشيوعي لعموم الاتحاد السوفياتي عقد في موسكو عام 1989، القى آخر رئيس للإتحاد ميخائيل غورباتشوف خطاباً طويلاً، تضمَّن خطته للولوج الى مرحلة "البروسترويكا والغلاسيسانت" أي التحديث والشفافية، وهي الخطة التي أدت الى انهيار المُعسكر الشرقي بكامله؛ كنا حاضرين كممثلين للشباب العربي، واستمعنا الى الخطاب الذي أثار إشكاليات ومخاوف، ولكنه تطرَّق الى إخفاقات بسيطة كانت كافية لتآكل نظاماً عظيماً. ومما قاله: "نحن أول من خَرَجنا الى الفضاء وامتلكنا أحدث الأسلحة وأنتجنا توازناً دولياً مع الغرب، ولكن مواطنينا من المزارعين ما زالوا يستخدمون الجرارات الكبيرة للوصول الى "الكولوخوزات" او المزارع، فيعرقلون السير، ويخالفون القوانيين، ويستهلكون كمية كبيرة من المحروقات التي ينبعث منها الدُخان الملوث". والدولة التي لا تعالج القضايا الصغيرة، تغرق بسبب ذلك ولا يُنقذها الاهتمام الحصري بالقضايا الكبيرة. ونحن بالمناسبة لم نصفِّق للخطاب المذكور على الإطلاق، كما حصل مع حاضرين آخرين.
ركوب الدراجات النارية للوصول الى العمل بهدف التوفير، او لتوصيل بعض الحاجيات الصغيرة من دون استعمال الآليات الكبيرة؛ مسألة هامة ويحتاجها ذوي الدخل المحدود وغيرهم من الشركات والأفراد، ولا يجوز "لعنها" او شيطنة راكبيها. ولبنان يحتاج لهذه الوسيلة بعد الانهيار المالي والركود الرهيب الذي أصاب اقتصاده. واستعمال الدراجات يوفِّر بعض الزحمة في الشوارع، لأن حجمها أقل من حجم السيارات الخاصة، ووسائل النقل العام غير متوافرة في كل المُدن والأحياء والمناطق.
لكن الوقائع المرئية والملموسة؛ تؤكد أن هذه النِعمة التوفيرية الخفيفة، تحولت الى نقمة مُقلقة وثقيلة، أرهقت حركة الشوارع والطرقات، وصنعت فوضى تُهدِّد سمعة مستقبل الدولة برمتها، وتحوَّل بعضها الى وسيلة تٌستخدم لترويج المخدرات والتشبيح والسرِقة، وحوَّلت بعض أحياء المُدن – خصوصاً بيروت – الى جحيمٍ موصوف، وكابوساً للسائقين والسائقات، والحوادث والمشاحنات تنتظر الناس في كل لحظة، وعلى كل إشارة او مفترق، بسبب تجاوزات بعض راكبي الدراجات النارية، الذين يتلاعبون بدرجاتهم بين طوابير السيارات والمارة، من دون أية قيود، ولا يخشون في عملهم الأرعن لومة لائم، بل على العكس من ذلك، لا يتورعون من مهاجمة المارة بالقدح والذمِّ، وأحياناً بالإيذاء الجسدي، ويتبلُّون النساء على وجه الخصوص، بفرض نوع من أنواع الترهيب عليهنَّ، بهدف ابتزازهنَّ بمبالغ مالية تُشبه "الخوة" بحجة أن دراجاتهم تضررت من صدمة يتقصدون افتعالها غالب الأحيان.
ورقصة الدراجات النارية التي يقوم بأدائها شباب معروفين من بعضهم البعض وسط ساحات رئيسية وفي شوارع هامة من أحياء العاصمة؛ لا يمكن تصديقها إلا من الرائي، ومن دون أية خشية من ملاحقة قوى الأمن، وغالبيتهم يستغلون انشغال القوى الأمنية بمهام أخرى، لارتكاب الموبقات والمخالفات، علماً أن الوقائع تؤكد أن رجال الأمن يتجنبون اعتراض راكبي الدراجات النارية المخالفين، لأن القانون الحالي يُعاقب هؤلاء إذا تسببت ملاحقتهم للمخالفين بحادث سقوط او اصطدام يؤذيهم جسدياً، والأمر ذاته ينطبق على سائقي السيارات الخاصة، لأن هؤلاء مسؤولون عن الإذية التي قد تلحق براكب الدراجة، حتى ولو كان مخالفاً للقوانيين المرعية، ويسري عليه ما يسري على المارة المدنيين في مثل هذه الحال.
دول آسيوية وعربية وأوروبية كثيرة تعتمد على الدراجات النارية كوسيلة نقل تُخفِّف استهلاك المحروقات وتُقلِّص الاكتظاظ، لكنها تفرض على سائقيها شروط مُشددة، وضوابط مُحكَمة، تحافظ بواسطتها على سلامة سائقي الدراجات النارية اولاً، وتحمي المواطنين وأمنهم من المخاطر التي قد تحدث بسببها. ومن أهم هذه الضوابط: تحديد السرعة (30 كلم في الدانمرك مثلاً) واحترام إشارات التقاطعات، وعدم التجاوز في الزحمة، ومنع سلوك الاتجاه المعاكس في أي طريق فرعية او رئيسية. إضافة الى الزامية ارتداء خوذة الحماية، والحصول على رخصة قيادة الدراجة، وتسجيل المركبة وفقاً للأصول.
في لبنان؛ عدد من هذه الضوابط يلحظها قانون السير، ولكنها لا تطبق، والشوارع تختنق بالمخالفات المروية التي يرتكبها سائقي الدراجات. فألمئات منها تسير من دون نمر، ومن دون بوليصة تأمين، وقد تحوَّل هدف توفير الوقت والمال الى وسيلة لإرتكاب المخالفات والموبقات، وأصبحت بيروت تحديداً في وضعٍ لا يُطاق من جراء هذه التجاوزات والتشبيحات التي ترتكب من قبل بعض راكبي الدراجات، علماً أن بعضاً آخر منهم يحترم الأصول المرعية، ويلتزم بأدبيات القيادة.
من أبرز خطوات إعادة النهوض التي يحتاجها لبنان؛ تنظيم السير وضبط المُخالفات، وهي شروط الزامية لنجاح الموسم السياحي الموعود، ولن تنتظم الأوضاع من دون تطبيق القانون، ويمكن انتاج تشريعات عصرية مُلائمة تعالج الهفوات الموجودة وتضع حد للفوضى، ومنها تحديداً؛ تحميل مسؤولية لسائقي الدراجات المُخالفين عن أي اضرار جسدية او مادية قد تُصيبهم، وأن لا تكون المسؤولية على عاتق أصحاب السيارات او القوى التي تسهر على حفظ الأمن. حينها تكون "البروستريكا" اللبنانية وسيلة عمار وليست سبباً للفوضى والدمار.
إعلان
يتم عرض هذا الإعلان بواسطة إعلانات Google، ولا يتحكم موقعنا في الإعلانات التي تظهر لكل مستخدم.