سِباق ساخن على استمالة بريطانيا
24 نيسان 2025
04:37
Article Content
يدورُ سباقٌ ساخن بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على استمالة بريطانيا في الحرب التجارية والدبلوماسية الباردة التي تجري بين الفريقين. وبريطانيا خرجت من الاتحاد بعد الاستفتاء الذي جرى في 23يونيو/ حزيران 2016 وحصل فيه المؤيدون للانفصال على نسبة 51.9 بالمئة من المقترعين، وهي أغلبية بسيطة جداً، وتُشير الى هوىً دفين ما زال يربط جمهوراً واسعاً من البلاد بأقرانهم على الضفة الجنوبية والشرقية من القارة.
في الجدل الواسع الذي أطلقه الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب حول الحرب في أوكرانيا، وفي ما يتعلَّق بالرسوم الجمركية؛ اقتربت لندن بعض الشيء من شركائها السابقين في الاتحاد الأوروبي، وابتعدت قليلاً عن حلفائها التاريخيين في واشنطن، ولم يخفِ رئيس الوزراء كير ستارمر هذه الرؤى، عندما وقَّع على معاهدة بين بلاده وأوكرانيا في 16يناير/ كانون الثاني 2025، ومدتها 100 عام، مشيراً الى خلاف مع المقاربات الأمريكية الجديدة حول إنهاء الحرب، باعتبارها تعطي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دفعاً سياسياً وعسكرياً قوياً، تسمح له باستعادة نفوذ موسكو على بعض أنحاء القارة، ويجعل من الاتحاد الأوروبي هدفاً له، بعد أن يرتاح من المتاعب الأوكرانية.
بريطانيا لها نفوذ كبير في بلدان أوروبية شرقية، ولاسيما في أوكرانيا، ولندن قاعدة لصناعة القرار الاستراتيجي في أكثر من مكان، ولمحافلها تأثيرات خفية في تصعيد النُخب وتوجيه السياسات في أكثر من دولة، ولديها مصالح متعددة مع الدول الأوروبية، وبعض هذه المصالح له بُعد تاريخي، وتتنافس مع موسكو في التأثير على مجموعات إثنية وسياسية، في الثقافة التقاليد، وفي التحالفات والاستقطابات، لاسيما مجموعة دول شمال وشرق القارة.
في الزيارة التي قام بها كير ستارمر الى واشنطن في 17 فبراير/ شباط 2025؛ لم يكُن الانسجام كبيراً بينه وبين زعيم البيت الأبيض الجديد دونالد ترامب، ولكن الاختلاف لم يظهر على الشاشات كما حصل مع رؤساء آخرين، لأن الهيبة الإنكليكانية لها بصمات مؤثرة على جدران البيت، وما يصحُّ مع أوكرانيا أو بنما أو المكسيك؛ لا ينفع مع التاج الذي لا تغيب عنه الشمس، ولو أن مكانة الانكلوفونية تراجعت بعض الشيء في مناطق من البحور واليابسة.
جهدت لندن على استعادة الوحدة السياسية والاقتصادية والعسكرية للقارة المُتألِّقة، لمواجهة الاستباحة المنتظرة، ودعت لعقد قمة افتراضية دولية لمناقشة الوضع في أوكرانيا في 15 مارس/ آذار 2025، في رد واضح على التوجهات الأمريكية، وقادت إنشاء منظومة دعم دولية لكييف، ضمَّت 20 دولة، ومنحتها مباشرةً قرضاً غير مشروط بقيمة 3 مليارات دولار، كما انخرطت في النشاط الأوروبي الذي يجهد لتوفير منظومة أمنية مستقلة تحمي القارة، بعد تصريحات الرئيس ترامب، التي أشار فيها الى عجز الأوروبيين عن حماية أنفسهم.
الاختلافات البريطانية – الأمريكية؛ لا تلغي كامل الودّ المتجذِر بينهما، ولا تُفسد كل جوانب القضية الضاربة في التاريخ بين عملاقين يتحكمان في ما يقارب نصف القرار الدولي، لاسيما في مجلس الأمن. فقد وجَّه الملك تشارلز الثالث دعوة للرئيس ترامب للقيام بزيارة دولة الى بريطانيا، ووعد ترامب بتلبيتها في سبتمبر/ أيلول القادم. وزيارة الدولة تختلف عن الزيارات العادية، فهي يجب ألا تقلّ عن ثلاثة أيام، ويُقيم الضيف في القصر الملكي، وتحفل الاستقبالات بمظاهر تعظيمية خاصة، لا تلحظها التقاليد المُعتمدة في دول أخرى. ووراء دعوة تشارلز لترامب حسابات استراتيجية، وأبرزها التأكيد على أهمية العلاقة بين البلدين، وعدم وجود رغبة في القطيعة، ومحاولة جادة من الذكاء البريطانية للتأثير في الأولويات البرغماتية للرئيس ترامب.
لكن الدبلوماسية البريطانية العريقة؛ حاكت ثوباً واقياً قد يساهم في حماية الجسد البريطاني، وقبل وصول ترامب الى لندن، من خلال توجيه دعوة مماثلة للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وهو سيُلبيها في نهاية شهر أيار/ مايو، وللموعد أهمية خاصة في هذا السياق، لأنه يسبق موعد زيارة ترامب.
وماكرون لم يحظ بمثل هذه الدعوة لزيارة دولة الى بريطانيا، رغم أنه تولَّى الرئاسة في فرنسا منذ ما يزيد على 8 سنوات، وسبق أن زار لندن بمناسباتٍ مختلفة. وبطبيعة الحال؛ فإن لدعوته في هذا التوقيت السياسي أهمية استثنائية، وفيها رسالة واضحة للحلفاء الأمريكيين على وجه الخصوص، والفطنة الإنجليزية لا تنسى مقولة الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت ايزنهاور في خمسينات القرن الماضي «علينا أن نحارب الشيوعية، ولكن علينا أن نتنبَّه لتأثيرات الاتفاق الفرنسي – البريطاني إذا ما عاد مُجدداً» فعلى الدوام كان الأمريكيون يتهيبون من توافق الإنكلوفون والفرنكوفون، وما خلفهما من مدّ أوروبي وغير أوروبي واسع، لا يمكن إغفال تأثيراته في الحياة الدولية.
الاتحاد الأوروبي مُغتبط لعودة التعاون مع بريطانيا، ولو من خارج سياق منظومة «ماستريخت» وتحاول الدول المؤثرة في الاتحاد تحريض لندن على إعطاء أهمية لخصوصية الأمن الأوروبي، وللمصلحة التجارية المشتركة بين دول القارة، ولحفظ المكانة الأوروبية بين أُمم الأرض، بينما الإدارة الأمريكية الجديدة استرسلت في التقليل من شأن القارة، ووصل بها الأمر الى حد محاولة اقتطاع جزء من الأراضي (غرينلاند) التي تخضع للسيادة الدنماركية الأوروبية. أيهما سينجح في استمالة هوى العرش؟ الجواب سوف يتضح في الأشهر القادمة.
إعلان
يتم عرض هذا الإعلان بواسطة إعلانات Google، ولا يتحكم موقعنا في الإعلانات التي تظهر لكل مستخدم.