اللوحة بين اللون والعتبة... قراءة في لوحة الرسام شوقي دلال عن خلوة الشاوي للمعلم كمال جنبلاط
15 آذار 2025
09:55
Article Content
يرى " ديكارت" أن معرفة وجود الله هي شرط معرفة أي وجودٍ آخر، وإنه من دون التحقّق من وجود الله ستظلُّ معرفتنا بوجود الأشياء الأخرى بما فيها الفكر غير ممكنة. وحاجة الإنسان العميقة إلى الصلة المباشرة بالله يلتقي فيها هذا الإنسان وجوديًا بالحقّ عبر مرحلة العروج والصعود من عالم الأرض إلى عالم الحقيقة. وهذا العروج هو عروجٌ معرفي وتخففيّ من حمولات الأرض الكثيفة إلى لطيف المكاشفات العلويّة في اغترابٍ ميتافيزيقي تتهشّم فيه كينونة الكائن البشري، ولا يتخلّص السالك من هذه الحالة إلا بسلوك طريق الله حيث الطريق إليه بعدد أنفاس الخلق كما يقول أحد المتصوّفة.
والأشياء التي نراها في هذا العالم ما هي إلا ظلالٌ لحقائق مضمرة، وأفكار سرمدية معلّقة ؤسط اللازمان واللامكان. والعالم الخارجي شبيهٌ بالكهف، والناس يرون ظلال الحقائق على الحائط، ولا يدركون كنهها لأن الحجب الكثيفة التي تمرُّ على مرآة النفس تمنعها من رؤية الحقيقة الصافية كما هي. فالعالم الخارجي كما يراه أفلاطون هو ظلٌ للحقيقة، وهو ما جعله يشبّه الصانع بالذي يحاكي الحقيقة فيبتعدُ عنها درجة، بينما الفنان الذي يحاكي ما فعله الصانع يبتعد عنها درجتين.
أمّا شوقي دلال الفنان فيحاول أن يحاكي الحقيقة من دون أن يبتعد عنها في سعيه ألى التجريد وذلك باستخدامه الألوان التي تضفي على المشهد هالة من الغموض الذي يستثير ذائقة المتلقّي لتبدأ رحلة التأويل وصولاً إلى الحقيقة. من هنا يمكننا الدخول إلى لوحة دلال من مداخلَ عديدة: الألوان، الخطوط والعتبة، وغياب الإطار المحدد للوحة.
المدخل إلى اللوحة مدخلٌ بصري، وذلك يعود إلى علاقة البصر بكل الموجودات. فالأشكال والأعداد قائمة وحقيقية، ولا مجال للشكّ فيها. أما الكيفيات الثانوية كاللون والرائحة فهي صفات متغيّرة، ولكنّها رامزة إلى المعاني التي ترتبط بالتأثيرات النفسية حيث تثير هذه الألوان أحاسيس وانفعالات من خلال الطبيعة السيكولوجية للوحة.
في اللوحة تتداخل الألوان متصدّرة المشهد بموجات متلاحقة تبدو تارة واخزة وطوراً هادئة تنساب وتُوظَّف وفق الحال الشعورية والمعنوية للرسّام. وهذه المعنوية التي تشتعل بانفجارية لونية وتشظٍّ بصريّ على مساحة مفتوحة تخلص إلى دلالات سيمائية متعددة الدلالة.
فالألوان إذاً متعددة، ولكلّ لونٍ طبيعة ووظيفة محددة. يتصدر اللون الأصفر وهو عنصرٌ أساس في أبجدية "إنانا" كلون ماثل يلعب وظيفة الخداع البصري على مساحة اللوحة. إذ لا يستطيع المُشاهد أن يحدد طبيعة المساحة الصفراء المائلة إلى البنّي الذي يفقدُ شيئًا من خواص الإشعاع عند اصطدامه بالبصر، ويصف حال العالم الخارجي الموزّع بين النصاعة والرمادية، الإبهار والسراب الخادع. ثم يأتي اللون الأزرق لونًا متسللاً على يمين الصورة باهتًا يحمل الشذرات السوداء الرامزة إلى حزمة الخطايا التي تشعل المشهد الأرضي لهذا العالم الغارق في عبثيته وشيئيته. بينما يظهر
اللون الأحمرالفاتح في الجزء الأيسر من اللوحة مائلاً إلى البنفسجي وهو لونٌ يرمز إلى الشدّة والقتال وصراع النفس مع ذاتها في توزّعها بين الخير والشر، العالم الأرضي والآخر الماورائي، الدنيا والآخرة.
هذا التصوير لنوازع النفس بين الواقع والحلم لا يتمّ وفق نقلٍ حرفيّ للعالم. وإنما وفق الغوص في الدواخل النفسية والشعورية التي تتحرّك داخل اللوحة من خلال الخطوط والألوان والمساحة المفتوحة التي تعبر عن طبيعة الحياة وتشابكها. فاللون يأتي ليؤدّي الدور الأكبر حيث اللوحة مجموعة من الألوان والصور المجرّدة والمنفلتة من أيّ إطار. إلا أن مساحة اللونين الأصفر والأزرق على الرغم من وجود اللون الأحمر تجعلهما مركزًا جاذبًا لعين المشاهد، وقطبًا محوريًا تتقاطعُ فيه حالات النفس حيث يسعى الفنان من خلال هذه الألوان الثلاثة إلى طرح رؤيته للعالم حيث السؤال الفلسفي حول الكون. والولوج إلى كنه الحقيقة يفترض خطًا متدرجًا في المسار اللونيّ.
ويأتي اللون البنفسجيّ الممزوج مع الفوسفوريّ على يسار اللوحة ليشي بالفوضى البصرية واللونية، وليقدّم إيقاعًا متعدد الأبعاد عن إمكانية فناء العالم الأرضيّ.
أما في أعلى العتبة فيسيطر اللون الأزرق الذي تشوبه صفرةٌ في أعلى اليمين متصلة بالجانب الأيمن السفلي وكأنها خيطٌ يربط الأرض بالسماء قبل أن ينتقل البصر إلى البقعة الزرقاء، بقعة الخروج إلى كوّة في جدار السماء. أما اللون الأخضر الفاتح فوق العتبة فيعطي إيحاءًا بصريًا بأن هناك بعدًا تجريديًا ثالثًا في اللوحة يخفّف من وطأة الأصفر ويشي بقابلية الحياة، وإمكانية التخلّص من رمادية الصورة.
والخطّ الأسود الذي يفصل بين الألوان والمساحات فإنه يطرح شكلاً من أشكال الصراع بين الواقع والمثال. وعلى الرغم من سوداوية الصورة فإن هناك عنصرًا خفيًا يربطها حتى لتبدو وكأنها مقسّمة إلى عدة تكوينات بعضها يأخذ أشكالاً هندسية من دون زوايا حادّة، وثراءًا لونيًا يجعل من الألوان أدوات تعبيرية مفتوحة على لانهائية التجريد. وبالتالي يتعدد الإيقاع العام في اللوحة وذلك عن طريق تفتيحها وتغميقها باستخدام الأحمر والأسود. وكل لون له خاصّية حسب النور والظلال، مع حضور متفرق للون الأخضر حيث المساحات المعبرة عن الحياة وقد مُزجت برتوش أخرى لتصور العالم الأرضي القائم على المتناقضات.
هذا في الخارج، أما في الداخل فالذي يحكم المشهد هو التناسق والتنظيم على الصعيدين الهندسي واللونيّ. في الخارج فوضى لونية وشتات مشاهد، ورشقات حبرمتفرقة تشي بالعبثية. أما في الداخل فتتغيّر وظيفة الألوان ليغلب عليها اللون الأبيض لون السلام الداخلي الممتزج بالأزرق رمز الأمل والمحال. أما الحائط المقابل فخلفيته السوداء تُوجّه البصر إلى بوابة الخروج وهي آخر ما تقع عليه عين السالك قبل ولوج الباب الأخير، باب التوبة والتطهّر.
أما العتبة الخارجية فمدخلٌ مفتوحٌ لكل المريدين بكل صلابتها ومتانتها الدالّة على قوة الإيمان الذي بجب أن يتحلى به الداخل. وإذا كان الأصل في البيوت أن تُفتَح الأبواب في وسط الجدران، فإن باب الحجرة مفتوحٌ إلى الخارج، ومائل تجّاه اليسار أكثر من اليمين، وذلك كي يؤمن سلوكًا سلسًا للداخل إلى الحجرة. وهو بابٌ واسعٌ بما فيه الكفاية لأن رحمة الله تسع كل شيئ. وهو يشغل الجزء الأكبر من اللوحة ليؤشر إلى أن بداية التوبة تبدأ من الأبواب الواسعة. أما الأقفال الحديدية والقوية والمزلاج الموصد بإحكام فيشي بصعوبة فتحه من الخارج، لأن الداخل هو مفتاح الخارج كما أن القلب هو أصل الإيمان . وإذا لم يكن الإيمان نابعًا من القلب فلا سبيل عندها إلى سبر الأبواب المغلقة وفتح الأسرار الكامنة.
وإذا كانت الحياة الدنيا لا تستقيم إلا بأكثر من باب، فإن الحياة الآخرة لا تستقيم إلا من خلال باب واحد ومسار صادق واحد. فلا وجود للوسطية. فإما أن تدخل من هذا الباب وإما لا طريق. وإذا كان الاتساع الكبير لهذا الباب فلأن النفس المثقلة والمتضخّمة بحب الدنيا، والجسد الحامل للآثام يستطيعان الدخول بكل الحمولات والذنوب. أما الخروج من الباب المقابل والمفتوح على مصراع واحد فغير ممكن إلا إذا تخفّف المرء وترك مغريات الدنيا وملذاتها جانبًا. فليس كل الداخلين يمكنهم الخروج بسلام إلا الذين قهروا نفوسهم وروّضوا شهواتهم. أولئك لهم نعيم الحياة الآخرة.
ويبدو البهو الداخلي فارغًا، فلا تصحّ العبادة إلا بالانفراد والعزلة. ويصعب على السالك والمريد أن يعبر ؤسط الزحام. فالطريق لا تتّسع لغير المؤمنين الذين تخفّفوا من كل ما يعيق، وولجوا باب التوبة فرادى في سعيهم إلى المذاكرة والتقرّب من الملكوت.
أما الخطوط على الجدران فتبدو غير متناسقة، فالانتظام السيمتري غير موجود حول الباب الرئيسي، والثغرة الماثلة في الجدار الأيمن تبدو وكأنها منفذ إلى العالم الافتراضي، والفتحة الطولية غير المتناسقة تسمح للون والضوء أن يتسللا بسلاسة أكثر. أما الجسد الماثل في أسفل الفتحة فيبدو وكأنه قناع عارٍ غير مكتمل التكوين،يؤشّر إلى الضالّين الذين يسقطون على جوانب طريق الحياة، ما يقرّب التجريد في اللوحة من أساليب الفنون البدائية حيث تتمازج الأشكال الهندسية مع أشكال الطبيعة التي تبدو وكأنها حاصل انشطارً قيميّ على مستوى العالم.
وإذا كانت الأشياء في الخارج مبعثرة وغير ذات ترتيب، والبقع المتناثرة على الجدران تؤشّر إلى حجم الفجيعة التي يعيشها سكان العالم الأرضي، فإن مظاهر الترتيب والتنسيق والبساطة بادية في الداخل. واللون الأبيض المتسرب من شقّ الباب المفتوح يرمز إلى الرحمة والنور المحض والعقل الكلي بحيث يزداد اللون اتّقادًا كلما اقتربنا من الشقّ المفتوح. بينما تبدو الألوان في الخارج باهتة تؤشر إلى عبثية الحياة، وعدم متانة البنيان الذي تمثله الحجارة المرصوفة فوق بعضها بطريقة فوضوية.
ومهما يكن من أمر، فإن لوحة الفنان شوقي دلال حمّالة أوجه تتجسد فيها المفارقات الضدّية، وتتميّز بألوانها الكثيرة، وتوظيفها لهذه الألوان في لعبة الدلالة. فالمساحة المعطاة للوحة صغيرة نسبيًا، ولكنها مفتوحة بلا حدود ولا أطر. والعلاقات السيمائية بين الألوان ودلالاتها ورموزها تتحول إلى فضاءٍ للتأويل. فالتمازج والتشاكل والتضادّ، كلها تفتح أبوابًا على الفنون الأخرى كالتصوير والسينما في تراسلٍ إيقاعيَ ودفقات شعورية تنتاب الفنان وتضعه أمام مغامرة تجريبية تحدد من خلالها نظرته إلى الحياة الدنيا والآخرة.
إعلان
يتم عرض هذا الإعلان بواسطة إعلانات Google، ولا يتحكم موقعنا في الإعلانات التي تظهر لكل مستخدم.