كمال جنبلاط شعلة فكرية لن تنطفئ
15 آذار 2025
07:25
Article Content
تعود في كل عام، وفي منتصف شهر آذار، ذكرى أليمة على أفئدة كل المخلصين في هذا البلد، وفي بلدان كثيرة أخرى.
لا أدري لماذا يحمل هذا التاريخ بالذات أهمية كبيرة لحدثٍ جرى في روما القديمة عندما كانت في عزّ أمجادها، وذلك عندما استوقف عرّافٌ موكبَ القائد الروماني يوليوس قيصر ليقول له، "احذر احتفال عيد منتصف شهر آذار". قصد العرّاف تحذير يوليوس قيصر من حدثٍ كبير سوف يتعرّض له في ذلك التاريخ بالذات. تحققت نبوءة ذلك العرّاف بعدها بأيام أثناء الاحتفال بتلك المناسبة، فسقط صريعاً على يد حفنة من الساخطين على سياسته، وكان من بين المتآمرين الذين طعنوه أحد أصدقائه، أي بروتوس. هذه الحادثة وردت ضمن إحدى مسرحيات شكسبير الشهيرة.
لم يكن كمال جنبلاط بحاجةٍ إلى عرّاف لتحذيره من ما يخطّط له صغار النفوس، فقد كانت له من معرفته الروحانية، ومن سياق الوضع القائم في البلاد في ذلك الحين، ما يوحي له ما سيحدث له في تاريخ ذلك اليوم، هو في حكم المؤكّد. كان الوضع في البلاد قاتماً جداً في النصف الثاني من عقد سبعينيات القرن الماضي، وفي خضمّ الحرب الناشبة في ذلك الوقت، وذلك بعد أن تحقق ما حذّر منه في وقتٍ سابق إن وقعت البلاد تحت وصاية قوىً خارجية ظالمة ومجرمة.
كمال جنبلاط كان يعرف متى سيرحل عن هذا العالم البائس. كانت تلك قناعة سائدة بين أوساط عدد من المواطنين في أواسط عقد الستينيات من القرن الماضي، أليس هو القائل، "أموت أو لا أموت فلا أبالي، وهذا العمر من نسج الخيال". كان جنبلاط على قناعة، كما هي الحال عند كثيرٍ من العارفين، بأن الموت ليس نهاية الحياة بل بدايةً لحياة أخرى، وأنّ الحياة التي نحياها ما هي إلّا تجربة قصيرة في طريق إكمال الروح طريقها إلى الارتقاء وصولاً إلى الكمال في نهاية المطاف.
بقيت صورة المهاتما غاندي في صدر قاعة الاستقبال في قصر المختارة الشامخ، والعابق بالذكريات والتضحيات. غاندي، ذلك الرجل العظيم الذي تحررت الهند على يديه، والذي كان قدوةً في عظمة التواضع، لقي مصرعه على يد أحد مواطنيه وهو الذي ضحّى الكثير من أجلهم حتى عندما كان يعمل محامياً عن مواطنيه الهنود في جنوب أفريقيا. أما إنديرا غاندي، ابنة نهرو، فقد لقيت مصرعها على يد أحد حراسها. وكذلك لا ننسى سقراط الذي تجرّع كأس السم رافضاً الهروب من السجن الذي وُضع فيه نتيجة أفكاره، وهو هروبٌ دبّره له بعض أصدقائه المخلصين. وأيضاً لا ننسى مارتن لوثر كينغ الذي دفع حياته ثمناً للدفاع عن الحقوق المدنية لمواطنيه من الأميركيين السود. وما زال موكب الذين يضحّون في سبيل شعوبهم يزداد عدداً مع مرور الوقت، ولم يكن المعلّم الكبير كمال جنبلاط آخرهم.
كان كمال جنبلاط عظيماً في صمته، "أنا صمت الصمت". وكان عظيماً في دفاعه عن الحريات العامة، وتقدّم بعض المظاهرات دفاعاً عن حرية الرأي حتى عندما كان وزيراً، كما اعترض على تنفيذ أحد أحكام الإعدام التي صدرت ضد شخصية فكرية مرموقة في لبنان، وكان ذلك عندما كان في بدايات دخوله إلى المجلس النيابي في أربعينيات القرن الماضي.
اغتيال كمال جنبلاط كان اغتيالاً لفكرٍ عظيم وشخصية شامخة قلّ أن يجود الزمان بها، وهو الذي كان عظيماً في تواضعه متحسّساً مشاعر الناس وعلى مختلف مشاربهم، ومتحسّساً آلام هذا الوطن الذي نعيش فيه، كما وضع له برنامجاً لإصلاح ما يعانيه من خلل، داعياً إلى إلغاء الطائفية السياسية التي هي في أساس نشوب صراعات في البلاد كل عقدٍ أو عقدين من الزمن، وذلك من ضمن "البرنامج المرحلي الإصلاحي" الذي قدمته الحركة الوطنية إبّان الحرب الأهلية التي نشبت في منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي.
دأب المعلّم الكبير على مخاطبة الناس في شتى المجالات، وبطرقٍ شتى، سواءً في الجامعات، والمهرجانات السياسية التي كانت تجري في بيروت، أو خلال أحاديثه ومحاضراته في "الندوة اللبنانية"، والتي كان يستعرض فيها عصارة أفكار الفلاسفة الأوروبيين، ومن بينهم سبينوزا، ذلك الفيلسوف الذي نبذه مجتمعه في شبه جزيرة إيبيريا (إسبانيا والبرتغال) حتى اضطر إلى الانتقال للعيش في هولندا، حيث أّلف كتاباً ضخماً بعنوان "الأخلاق" بالإضافة إلى كتب قيّمة أخرى، وكذلك برغسون، وآخرون. حذّر المعلّم الكبير في إحدى محاضراته التي ألقاها في تلك الفترة من التحوّل إلى مجتمعٍ استهلاكي، وها قد وصلنا إلى الوضع الذي حذّرنا منه.
أما شعار الحزب الذي أطلقه برفقة نخبة من المجتمع الثقافي اللبناني، ومن بينهم الشيخ عبد الله العلايلي، وغسان تويني، أي شعار، "مواطنٌ حر وشعبٌ سعيد" فكان في صميم فكره الفلسفي، وذلك بتشديده على قيمة حرية الفرد للوصول إلى تكوين شعبٍ سعيد، وهو هدف ما زال بعيداً عنا في هذا الوطن الحزين.
كمال جنبلاط شعلة فكرية لن تنطفئ على مدى الزمن، وأفكاره التي يجري تدريسها في بعض جامعات أوروبا، وسوف تظلّ شاهدةً على عظمته.
إعلان
يتم عرض هذا الإعلان بواسطة إعلانات Google، ولا يتحكم موقعنا في الإعلانات التي تظهر لكل مستخدم.