Advertise here

مُساهمة صندوق الضمان وصناديق التقاعد في تمويل مشاريع الكهرباء: فرصة أم مخاطرة؟

31 آب 2019 09:43:00 - آخر تحديث: 05 أيلول 2020 23:05:15

بين سندان مؤسّسات التصنيف الدّولية ومطرّقة سعر صرف اللّيرة اللّبنانية مقابل الدّولار - الذي بدأ يبلغ أسعارًا أعلى من سعر التداول الرسمي- لم يعُد خافيًا على أحد أن الأزمة الماليّة التي يمرّ بها لبنان هي أزمة ميزان مدفوعات. يقيس هذا الميزان صافي الأموال الخارجة من لبنان والداخلة إليه، وقد بلغ 5?2 مليار دولار فقط في الأشهر الخمس الأولى من السنة الحالية (بلغ العجز لشهر أيار/مايو 2019 وحده 1?9 مليار دولار) وهو أعلى مستوى عجز يسجّله لبنان منذ الاستقلال. إنّ هذا العجز يعكس حاجة لبنان المتزايدة للعملات الأجنبيّة لتسيير الاقتصاد. لربّما أبرز أسباب تراكم هذا العجز يكمن في عجز قطاع الكهرباء الدّائم والذي حاولت الحكومات المتعاقبة أن تخفّف من عبئه. فمنذ بداية الألفيّة الثانية، أوقفت الدّولة كلّ استثمار في هذا القطاع، وأطلقت سياسة التقنين وسيلةً لتخفيف الإنفاق بالعملات الأجنبيّة.

اليوم، تطرح خطّة الكهرباء المُقرّة حديثًا إنشاء ستة معامل إنتاج جديدة بين عامي 2019 و2026، بقدرة إجماليّة تصل إلى 3100 ميغاواط، وذلك بهدف توفير الكهرباء على مدار الساعة. في الواقع، لم يكن هذا الهدف (أي توفير الكهرباء 24/24) غاية بحدّ ذاتها، لا في السنوات الماضية، ولا حاليًا، لسبب بسيط، هو أنّ معظم اللّبنانيين يحصلون على الكهرباء، عبر المولّدات الخاصّة. إنّ الهمّ الرئيسي لدى الحكومات المُتعاقبة يتمثّل بعدم تكبّد المزيد من الأكلاف على إنتاج الطاقة، خاصةً لجهة ما يُنفق سنويًا على شراء الفيول ممّا يشكّل عبأً ثقيلًا على ميزان المدفوعات. فوفقًا لإحصاءات الجمارك اللّبنانية، شكّلت واردات المنتجات المعدنيّة (فيول وغيرها) أكثر من21% من مجمل قيمة الواردات.

أمام هذا الواقع، لجأت الحكومة إلى الخارج لطلب القروض، وذلك من خلال مؤتمر «سيدر» الذي تعوّل عليه لتمويل مشاريع البنية التحتيّة المطروحة ضمن برنامجها الاستثماري، ومنها مشاريع الطاقة، من أجل المساعدة في دعم ميزان المدفوعات وتخفيف العجوزات المتراكمة فيه.

فهل ستحقّق الخطّة المطروحة في قطاع الكهرباء هذا الهدف فعلًا؟

نموذج عملي

معظم مشاريع الإنتاج المُزمع القيام بها ستكون على أساس الشراكة مع القطاع الخاصّ، ووفق اتفاقيّات شراء طاقة لمدّة 20 أو 25 سنة، أي أنّ الشريك الخاص الفائز في المناقصة سيكون مسؤولًا عن إنشاء المعمل وتشغيله، ثمّ بيع الكهرباء المُنتجة إلى الدولة بالعملات الأجنبيّة أو بالقيمة الفعليّة للعملة المحلّية.

لِنَفترض، على سبيل المثال، أنّ الدولة اللّبنانية أطلقت مناقصة عالميّة لإنشاء معمل إنتاج كهرباء وفق تقنيّة الـ(CCGT Combined-Cycle Gas Turbines)  كتلك المطروحة في الخطّة، التي ستفوز بها شركة أجنبيّة ذات خبرة مع بعض الشركاء المحلّيين، وتكون أصولها وأموالها الأساسيّة خارج لبنان، فذلك قد يؤدّي إلى خروج للأموال من لبنان لا العكس، إذ سيُنشئ المعمل على أرضٍ تملكها الدولة (مُستملكة أو قيد الاستملاك)، وبالتالي ستتسلّمها الشركة الفائزة لتباشر بالأعمال عليها من دون أي كلفة تُذكر. ولبناء المعمل، ستُستقدَم المعدّات (التوربينات) من الشركات الأجنبيّة المصنّعة، وبالتالي سيُدفَع ثمنها إلى خارج لبنان بالعملات الأجنبيّة. وستوقّع هذه الشركة عقد شراء طاقة (PPA) مع الدولة اللّبنانية، ممثّلة بوزارة الطاقة والمياه، كما حصل مع مشاريع طاقة الرياح في عكّار، وكما يحصل بموجب مشاريع مُماثلة، يُحدّد فيه سعر مبيع الكيلواط/ساعة خلال مدّة العقد (عادة تكون 20 عاماً) والتي ستلتزم الدولة بدفعه بالعملات الأجنبيّة، مع تعهّدها بتوفير الفيول اللّازم لتشغيل المحرّكات والذي تستورده من الخارج وتدفع ثمنه أيضًا بالعملات الأجنبيّة.

عمليًا، تنطوي هذه العقود على التزامين مفصلِيَين: الأوّل يقضي بتوفير الفيول، الذي يؤدّي استيراده إلى نزف دائم بالعملات الأجنبيّة، وقد أثبتت التجارب أنّ التأخير في فتح الاعتمادات في وزارة المال يؤدّي تلقائيًا إلى تقنين قاسٍ ويُكبّد الدولة خسائر بملايين الدولارات.

أمّا الالتزام الثاني، فهو بِدفع سعر الطاقة المُنتجة للشركة المُشغّلة بالدولار، مع الالتزام بضمانات ماليّة ضخمة في حال التخلّف عن الالتزام بموجبات العقد، وهو ما يعني رهن مُسبق لمداخيل الخزينة العامّة المستقبليّة بِهدف ضمان استدامة الطاقة كأولويّة وتسديد ثمن الحصول عليها، أو استقطاب الدولارات بشتّى الوسائل المُمكنة كحاجةٍ دائمة ومستمرّة. في كلتا الحالتين (أو الالتزامين)، تكون الدولة قد وضعت في سُلّم أولويّاتها استخدام العملات الأجنبيّة كَالدولار، متى توافرت، لتسدي المستحقّات لمنتجي الطاقة ومستوردي الفيول، الذين بِدورهم يُخرجون هذه الأرباح إلى حساباتهم خارج لبنان، ما يُشكّل ضغطًا إضافيًا على ميزان المدفوعات. وفي حال تعذُّر الدفع، يتمّ اللّجوء إلى التحكيم الدّولي كما حصل في نموذج «دير عمار-2»، مع ما يترتّب عن ذلك من خسائر ومخاطر في آنٍ واحد، مثل وضع اليد على أصول الدولة في الخارج، أو حتّى أصولها بالعملات الأجنبيّة الموضوعة في الخارج.

هل من مخارج عمليّة أخرى؟

وُسط هذا الضغط المُتنامي والخطير على عجز ميزان المدفوعات، تبرز الحاجة إلى إيجاد حلول لوقف النّزف. من هُنا، يبرز الدور المحوري الذي يمكن أن يؤدّيه المتقاعدون والأساتذة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وموظّفي الدولة المستفيدين من صناديق التقاعد (القضاة، الجامعة اللّبنانية وغيرها)، مع ما يمثّل هؤلاء من طبقة وُسطى وقوى فاعلة في الاقتصاد، عبر ضمان استدامة الأموال ومنعها من الخروج خارج لبنان، وذلك بالتعاون مع شرائح اجتماعيّة مؤثّرة، كالمنضوين في نقابات المهن الحرّة من أطبّاء ومحامين ومهندسين.

لقد درجت العادة إلى الحدّ من هامش المناورة في استخدام أموال هذه الصناديق، بحيث يتمّ استثمارها حصرًا في المصارف أو في سندات خزينة طويلة الأجل، وبالتالي إبقاء حركتها تحت تأثير السلطة السياسيّة والبنك المركزي من خلال التحكّم بأنظمة العوائد والفوائد ومدّة الاستثمار. علمًا أنّ أموال تعويضات صناديق نهاية الخدمة في الضمان الاجتماعي، ونقابات المهن الحرّة من أطبّاء ومحامين ومهندسين، وتعاونيّة موظفي الدولة وأساتذة التعليم الخاصّ وغيرها تتراوح بين 12-14 مليار دولار.

من هنا نقترح إنشاء شركة وطنيّة مساهمة تُدرج في بورصة بيروت لتمويل إنشاء معمل لإنتاج الطاقة بدلًا من الشركة الأجنبيّة الفائزة في المناقصة، التي تبقى مسؤولة عن التصميم والبناء والصيانة والتشغيل. وبالإمكان أن تكون هذه الشركة الوطنية مزيجًا من اكتتابات للصناديق المذكورة أعلاه، واكتتابات عامّة من الأفراد والمؤسّسات وأصحاب المدخّرات في المصارف وشركاء استراتيجيين كالدولة على سبيل المثال. بحيث يستفيد من عوائد هذا المشروع مُساهمون لبنانيّون في هذه الشركة، وذلك لـ20 سنة قادمة، ممّا يخلق حركة اقتصاديّة داخليّة من دون خروج العملات الأجنبيّة إلى الخارج، ما ينعكس إيجابًا على ميزان المدفوعات.

الآثار الاقتصاديّة

يؤدّي هذا النموذج إلى تحقيق منافع عدّة تنعكس على القطاع الكهربائي والاقتصاد في آنٍ واحد، إذ أنّ هذا المشروع يمكن أن يدرّ أموالًا من جرّاء بيع الطاقة للدولة والمستهلكين عمومًا من دون رهن مقدّرات الدولة، ولكن لأشخاص محلّيين سيستفيدون من دورتها لمدّة 20 سنة، وبالتالي يحافظون على العقد الاجتماعي وعلى القدرة الشرائيّة للأسر، ويبعدون شبح التحكيم الدولي، وينقذون ما بقي من أموال في الاحتياطات الأجنبيّة.

المَخاطر التي قد تترتّب على هذا النموذج

في ظلّ غياب الرقابة داخل مؤسّسات الدّولة وانتشار الفساد فيها، يبقى الخطر الأساسي في أن تتحوّل هذه الشركة إلى نموذجٍ يشبه الإدارات العامّة الأخرى فنكون بذلك أَضَفنا مُشكلة بدلًا من إيجاد حلّ للمشاكل الراهنة. لذا، لا بدّ من أن تترافق عمليّة إنشاء الشركة الوطنيّة مع دراسة عميقة وشفّافة لمشاريع البنى التحتيّة المطروحة وانتقاء الأكثر جدوى منها كما مراقبة عمليّتي البناء والتشغيل لتكون أيضًا شفّافة ووفق المعايير العالميّة. يُنتظر من هذا النموذج أن يخلق إدارة فعّالة وشفّافة، غايتها المحافظة على مصلحة المكتتبين فيها وتحقيق الأرباح في الوقت نفسه، فلا تغرق في الفساد والزبائنيّة والمحسوبيّة وسوء الرقابة والتنفيذ.

هل نحن جاهزون للقيام بهذه الخطوة؟

يُشكّل هذا الطرح مدخلًا لنقاشٍ هادئٍ وبنّاء حول نظرتنا المستقبليّة لكيفيّة إدارة القطاعات الأساسيّة وتحويلها إلى مصدرِ دخلٍ داخلي لا عجزٍ خارجي بفعلِ الخطر النّاجم من تسعيرها بعملةٍ أجنبيّة. كما أنّ هذا الطرح لا ينحصر على معامل إنتاج الكهرباء على الغاز فحسب، بل أيضًا على مشاريع إنتاج الطاقات المُتجدّدة التي أثبتت جدواها وفعاليّتها، كما على مشاريع المياه والصرف الصحّي والنقل المُشترك وغيرها.

إن لم تقارب أي استراتيجيّة للمشاريع الاستثماريّة المقبلة، في أي قطاع خدماتي كان، أزمة ميزان المدفوعات وتعمل على تخفيف وطأتها، باعتبارها الأزمة الداهمة التي تؤثّر على جميع مكوّنات المجتمع، سيؤدّي ذلك إلى تفاقم الأزمة وكسب الوقت لا أكثر.

(*) مارك أيوب / معهد عصام فارس