اغتيال كمال جنبلاط: زلزال سياسي وتداعيات مستمرة حتى اليوم
07 آذار 2025
18:51
Article Content
في صباح 16 آذار 1977، سقط كمال جنبلاط برصاص القتلة في منطقة الشوف، لكن رصاصاتهم لم تكن موجهة لشخصه فقط، بل كانت موجهة ضد مشروع سياسي وأيديولوجي كان يسعى لتغيير شكل لبنان والمنطقة. كانت تلك اللحظة لحظة فاصلة في تاريخ البلاد، فاغتياله لم يكن مجرد جريمة فردية، بل كان بداية مرحلة جديدة من الصراعات الإقليمية والداخلية، لم تزل آثارها قائمة حتى اليوم.
المرحلة الأولى: تداعيات مباشرة على الحرب الأهلية (1975-1990)
كان كمال جنبلاط زعيمًا للحركة الوطنية اللبنانية، التي كانت في ذلك الوقت متحالفة مع منظمة التحرير الفلسطينية ضد ما كان يُعرف بالجبهة اللبنانية، التي ضمت القوى اليمينية المسيحية بقيادة بشير الجميل. وكان جنبلاط من أشد المعارضين للوجود السوري في لبنان، فكان يرى أن دمشق لا تسعى لحماية لبنان بل للسيطرة عليه.
اغتياله فتح الباب أمام تدخل سوري أعمق في الحرب الأهلية، حيث تمكن الجيش السوري من فرض سيطرته على مناطق شاسعة من لبنان، خصوصًا بعد دخول قواته رسميًا إلى البلاد عام 1976. وبعد اغتياله لكمال جنبلاط، وانتقلت الزعامة إلى ابنه وليد جنبلاط، الذي اضطر إلى تبني نهج براغماتي، قائم على التحالف مع السوريين في بعض المراحل، تفاديًا لصدام دموي مباشر قد يؤدي إلى إنهاء القوى الوطنية في لبنان والسيطرة عليه بالكامل.
وخلال الفترة الممتدة بين 1982 و1990، استمرت الحرب الأهلية اللبنانية بكل تعقيداتها، حيث لعب الوجود السوري دورًا رئيسيًا في التحكم بمسار النزاع، إلى أن انتهت الحرب رسميًا باتفاق الطائف عام 1989، الذي أقرّ توزيعًا جديدًا للسلطة، وكرّس النفوذ السوري في لبنان، بشكل جعله الحاكم الفعلي في السياسة اللبنانية.
المرحلة الثانية: من اتفاق الطائف إلى انسحاب الجيش السوري (1990-2005)
بعد الحرب، دخل لبنان في مرحلة إعادة بناء الدولة، ولكن تحت الهيمنة السورية المطلقة. أصبح الوجود السوري واقعًا لا يمكن الخروج منه بسهولة، واستمر حكم دمشق للبنان عبر شبكة واسعة من التحالفات السياسية، ومن خلال الأجهزة الأمنية التي كانت تفرض قبضتها على مختلف مفاصل الدولة.
وفي هذا السياق، بدأ وليد جنبلاط يلعب لعبة توازن دقيقة، حيث حافظ على علاقات وثيقة مع النظام السوري، لكنه في الوقت ذاته، لم يقطع خيوط الاتصال مع القوى الدولية الأخرى. وكان ذلك واضحًا خلال تولي رفيق الحريري رئاسة الحكومة، حيث دعمت السعودية والغرب مشروع إعادة الإعمار في لبنان، لكن ضمن توازن دقيق مع المصالح السورية.
غير أن هذا التوازن بدأ يهتز مع تطور الأحداث الدولية، خصوصًا بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، حيث تعرض النفوذ السوري لضغوط متزايدة، خصوصًا مع صدور قرار مجلس الأمن رقم 1559، الذي طالب بانسحاب القوات الأجنبية من لبنان ونزع سلاح الميليشيات.
المرحلة الثالثة: اغتيال الحريري وانهيار الهيمنة السورية (2005)
في 14 شباط 2005، اغتيل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في عملية تفجير ضخم وسط بيروت، وهو الحدث الذي غير موازين القوى تمامًا في البلاد.
وجهت أصابع الاتهام فورًا إلى النظام السوري وحلفائه في لبنان، ومع تصاعد الغضب الشعبي، خرجت مظاهرات حاشدة عُرفت بثورة الأرز، طالبت بإنهاء الاحتلال السوري. وبالفعل، في نيسان 2005، انسحبت القوات السورية من لبنان، بعد وجود استمر نحو 30 عامًا.
لكن هذا الانسحاب لم يكن نهاية التدخلات الخارجية، بل فتح الباب أمام صراع جديد بين المحور الإيراني – السوري من جهة، والمحور السعودي – الغربي من جهة أخرى، وهو ما انعكس في سلسلة من الاغتيالات التي استهدفت شخصيات مناهضة للنفوذ السوري، إضافة إلى تصاعد نفوذ حزب الله كقوة عسكرية وسياسية مهيمنة.
المرحلة الرابعة: صعود حزب الله كقوة رئيسية (2006 – 2019)
بعد الانسحاب السوري، دخل حزب الله في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل عام 2006، انتهت بما اعتبره الحزب "نصرًا إلهيًا"، لكنه في الواقع كان بداية صعوده كقوة سياسية – عسكرية مهيمنة على لبنان. وبعد ذلك، بدأ الحزب يفرض أجندته بالقوة، كما حدث في أحداث 7 ايار 2008، حين اجتاح مقاتلوه بيروت والجبل في رسالة واضحة بأن أي محاولة لعزله ستقابل بالقوة.
خلال هذه الفترة، دخل لبنان في أزمات سياسية متتالية، حيث تعطلت الحكومات، وحدثت أزمة رئاسية استمرت سنتين حتى تم انتخاب ميشال عون رئيسًا عام 2016، بدعم مباشر من حزب الله.
لكن مع استمرار الأزمة الاقتصادية والفساد المستشري في الدولة، بدأ السخط الشعبي يتزايد، ما أدى إلى اندلاع ثورة 17 أكتوبر 2019، التي كانت واحدة من أكبر الحركات الاحتجاجية في تاريخ لبنان الحديث.
المرحلة الخامسة: الانهيار الاقتصادي وانفجار بيروت (2019 – 2025)
منذ 2019، دخل لبنان في أزمة اقتصادية غير مسبوقة، فقد انهارت العملة اللبنانية، وتراجع مستوى المعيشة بشكل كارثي. وجاء انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020 ليزيد الطين بلة، حيث ذهب ضحيته أكثر من 200 شخص، وانهارت أجزاء واسعة من العاصمة، دون أن يتم محاسبة أي مسؤول حتى اليوم.
وفي هذه الظروف، عاد لبنان إلى حالة من الشلل السياسي، حيث أصبحت البلاد تدار بدون حكومة فاعلة، وسط صراع بين حركة احتجاجية تطالب بتغيير جذري في النظام والقوى التقليدية التي ترفض الاطاحة بالنظام القائم.
واليوم، في 2025، لا يزال لبنان عالقًا بين أزماته الداخلية، وبين لعبة النفوذ الإقليمي.
فهل يغيد اعتقال حويجة فتح الملفات القديمة؟
مع إعلان اعتقال إبراهيم حويجة، يُطرح السؤال: هل يمكن لهذا التطور أن يعيد فتح ملفات الاغتيالات السياسية في لبنان؟ وهل يشكل هذا الاعتقال بداية لمحاسبة حقيقية على الجرائم التي ارتُكبت خلال العقود الماضية؟
الجواب غير واضح، لكن الأكيد أن لبنان لا يزال يعيش في دوامة من الاغتيالات السياسية، والهيمنة الخارجية، والأزمات الداخلية، ما يجعل تحقيق العدالة أمرًا صعبًا، لكنه ليس مستحيلًا.
اغتيال كمال جنبلاط كان بداية لمسار دموي طويل، لم ينتهِ بعد، لكن ربما يكون اعتقال أحد المتهمين الرئيسيين فيه خطوة صغيرة نحو كشف الحقيقة، وإنصاف الضحايا، ولو بعد نصف قرن.
إعلان
يتم عرض هذا الإعلان بواسطة إعلانات Google، ولا يتحكم موقعنا في الإعلانات التي تظهر لكل مستخدم.