كمال جنبلاط… فارس الفكرة وشهيد الحلم
05 آذار 2025
19:09
Article Content
في السادس عشر من آذار، يقف التاريخ بخشوعٍ، كأنّه يتأمّل صفحةً من نورٍ خُطّت بحبر التضحيات، وينحني إجلالًا أمام ذكرى رجلٍ لم يكن مجرّد زعيمٍ سياسيّ، بل كان فكرةً عصيّةً على النسيان، ورياحًا لا تهدأ، وصوتًا لا ينطفئ. كان كمال جنبلاط أبعد من حدود الألقاب، وأعمق من سطور السياسة، رجلًا صنع من الحبر سيفًا، ومن الكلمة ثورة، ومن الحلم وطنًا لا تحدّه الخرائط.
في مثل هذا اليوم من عام 1977، حاول الرصاص أن يسدل الستار على مسيرةٍ كانت تشعّ نورًا في عتمة الظلم، لكنّ القاتل لم يدرك أنّه باغتياله الجسد، أطلق روحًا لا تُحاصر، وأشعل فكرةً لا تُطفأ. فصوت كمال جنبلاط لم يُغتل، بل تحوّل إلى صدى يملأ الأفق، وأفكاره لم تُدفن، بل تسرّبت إلى ضمير الأحرار، وأحلامه لم تنطفئ، بل صارت منارةً لمن تاهوا في متاهات الظلم والطغيان.
لقد عاش كمال جنبلاط متجاوزًا عصره، وحين ارتحل، لم يكن وداعه مجرّد غياب، بل وعدٌ بأنّ الشهادة ليست النهاية، بل بدايةُ حياةٍ جديدة، تُكتب على جدران الزمن بمداد الحقّ، وتُحفظ في ذاكرة الأجيال كنشيدٍ لا يُمحى، وحكايةٍ لا تموت.
رجلٌ سبق عصره
لم يكن كمال جنبلاط زعيمًا بالمعنى التقليديّ للقيادة، بل كان رجلًا صنعته الفكرة، وحملته القناعات، وسارت به الأحلام الكبرى نحو دروبٍ لم يجرؤ كثيرون على عبورها. كان مفكرًا لا يأسر عقله إطار، ولا تحدّ رؤيته الجدران، بل كان عابرًا للحدود، يكتب بمداد الفلسفة مستقبلًا أكثر عدلًا، ويسير على دروبٍ وعرة، حاملاً مشعل النور في ليالٍ كادت أن تبتلعها العتمة.
لم يكن لبنان في نظره مجرّد وطنٍ يرسمه خطّ على الخريطة، بل كان فكرةً تتنفس، وقضيةً تتجاوز الجغرافيا، ورسالةً تنتمي إلى كلّ إنسانٍ ينشد الحرية والعدالة. حمل وطنه في قلبه، لكنه لم يكن أسير حدوده، بل طاف بفكره شرقًا وغربًا، يبحث عن الحقيقة في عيون الفلاسفة، ويستمدّ من التاريخ دروس المقاومة والصمود. كان ثائرًا، لكنّه لم يحمل سلاحًا إلا في وجه الجهل، ومحاربًا، لكنّه لم يخض معركةً إلا من أجل الحق.
آمن بالاشتراكية كمبدأ، حيث لا استغلال ولا ظلم، وبالحرية كحقّ مقدّس لا يقبل التفاوض، وبالعروبة كرابطٍ يوحّد المصير، وبالإنسانية كغايةٍ لا بدّ أن تكون فوق كلّ انتماء. لم يكن زعيمًا يتبع أهواء السلطة، بل كان صوتًا حرًّا لا يقيّده سوى إيمانه بالمبادئ. كان صوفيّ الروح، زاهدًا في المناصب، غنيًّا بالفكر، ثابتًا على الحقّ، يكتب كشاعرٍ تفيض كلماته بالمشاعر، ويتحدّث كفارسٍ يمضي بثباتٍ في ساحات النضال، ويحيا كمقاومٍ لا يعرف التراجع ولا المساومة.
كان كمال جنبلاط رجلًا من طرازٍ مختلف، سابقًا لعصره بفكره، متجاوزًا للواقع بحلمه، شامخًا كالأرز، لا ينحني للعواصف، ولا يتبدّل مهما تبدّلت الأزمنة.
اغتيال الجسد لا الفكر
في ظهيرة ذلك اليوم المشؤوم، ارتجّت الأرض تحت وقع الخيانة، وسقط الجسد، لكنّ الروح ظلّت تحلّق فوق الجبال التي أنشدت للحرية يومًا، وعلى الطرقات التي كانت شاهدةً على خطوات رجلٍ لم يعرف الخوف، ولم يبدّل قناعاته مهما اشتدّت العواصف. كان الرصاص أعمى، يظنّ أنّه قادرٌ على إسكات الحقيقة، لكنّه لم يدرك أنّ بعض القامات حين تسقط، تتحوّل إلى أعمدةٍ من نور، يستحيل هدمها أو محو أثرها.
لقد كان كمال جنبلاط رجلًا صنعته الفكرة، وصاغته المبادئ، ولم يكن جسده سوى وعاءٍ لحلمٍ أكبر من أن يُدفن، وأكبر من أن يختفي مع غبار الاغتيال. لقد أخطأ القاتل حين ظنّ أنّ الموت نهاية، فهناك من تكون شهادتهم بدايةً لثورةٍ لا تخمد، ولصوتٍ لا يخفت، ولحياةٍ تمتدّ بين دفاتر الفلاسفة، وضمائر الأحرار، وأحلام الذين لم يستسلموا لليأس.
رحل الجسد، لكنّ المبدأ بقي، والفكرة تمدّدت، والنضال استمرّ، لأنّ كمال جنبلاط لم يكن يومًا مجرّد اسم، بل كان صرخةً مدوّيةً في وجه الطغيان، ورسالةً كتبتها الأقدار بمداد الشجاعة والتضحية. إنّ صوته لا يزال يُسمع في الجبال والوديان، يتردّد بين دفّات الكتب، وفي صفحات التاريخ، وفي ضمير كلّ من حمل راية الإصلاح والتغيير.
فكم من زعيمٍ اغتيل، فانطفأ ذكره مع غروب الشمس؟ وكم من رجلٍ قُتل، فصار أيقونةً تضيء الدروب للأجيال القادمة؟ كمال جنبلاط كان من هؤلاء الذين لا يموتون، من أولئك الذين كلّما مرّت الأعوام على رحيلهم، ازدادوا حضورًا، وتحوّلوا إلى شُعلٍ لا تخبو، وأحلامٍ لا تُغتال.
إرثٌ لا يبهت
اليوم، وبعد سنواتٍ على استشهاده، لا يزال كمال جنبلاط علامة فارقة في تاريخ لبنان والعالم العربيّ، بل وأكثر من ذلك، لا يزال اسمه يُكتب بحروفٍ من نور في ضمير الشعوب التوّاقة إلى الحرية، ويتردّد صوته في آذان الأحرار الذين لم يستكينوا لظلمٍ أو قهر. لم يكن مجرّد سياسيٍّ عابر، ولا زعيمًا تقليديًّا تتلاشى سيرته مع تبدّل الأزمنة، بل كان فكرًا متجذّرًا في أعماق الأرض، كالأرز الذي لا تنال منه العواصف، وكالشمس التي لا يحجبها الغياب.
لقد كان كمال جنبلاط رجلًا سبق زمانه، حالمًا بمجتمعٍ لا مكان فيه للطغيان، وساعيًا إلى بناء وطنٍ تُصان فيه الكرامة، فلا ظلم يسود، ولا حقّ يُضيّع، ولا حرية تُساوَم. لم تكن كلماته مجرّد خطاباتٍ تُلقى وتنتهي، بل كانت مشروعًا متكاملًا لحياةٍ أرقى، نظامًا يُبنى على أسس العدل والمساواة، ورؤيةً تمتدّ في آفاق الفكر، تحمل أملًا لشعوبٍ أرهقها الاستبداد.
واليوم، في كلّ زاوية من زوايا الفكر الحرّ، وفي كلّ صوتٍ يرتفع دفاعًا عن المظلوم، وفي كلّ نداءٍ يطالب بالحق، هناك شيء من كمال جنبلاط، هناك ومضةٌ من حلمه، وصدى من كلماته، ونبضٌ من روحه. فقد كان مشروعه للبنان والعالم أكبر من أن يختصر في زمن، وأعمق من أن يُمحى بيد القتل والغدر. سيبقى صوته هاديًا في دروب الباحثين عن الحقيقة وسط ضباب المصالح، وسيظلّ إرثه حيًّا، لا يبهت، ولا يزول.
الخالدون لا يموتون
في كلّ عام، تعود ذكرى كمال جنبلاط لتذكّرنا أنّ الشهادة ليست غيابًا، بل حضورٌ أكثر سطوعًا. إنّها رسالة تقول إنّ من يحيا من أجل قضية عادلة، يبقى خالدًا مهما طال الزمن. وكمال جنبلاط، ذاك الفارس الذي ترجل برصاص الغدر، لم يكن يومًا مجرّد زعيمٍ سياسيّ، بل كان رؤيا لا تموت، وفكرًا لا ينكسر، وروحًا ستظلّ تهيم في سماء الوطن، تنادي بالحرية حتى آخر نبضٍ في هذه الأرض.
المجد لشهداء الفكر، والمجد لكمال جنبلاط، أيقونةً لا تموت.
إعلان
يتم عرض هذا الإعلان بواسطة إعلانات Google، ولا يتحكم موقعنا في الإعلانات التي تظهر لكل مستخدم.