قراءتان.. ومخاوف من إنتاج التوتر: متى يبدأ لبنان النقاهة؟
17 شباط 2025
07:19
Article Content
رجل سياسي مخضرم راقب مراحل الحرب في لبنان منذ كان شاباً، وانخرط في بعض أحداثها مشاركاً أو وسيطاً، نبّه إلى خطورة الحال الراهنة إذا لم يَعرف الأفرقاء اللبنانيّون التعامل مع النتائج الكارثية للحرب على لبنان، والتحصّن بالوعي الكافي في مواجهة التحدّيات بعيداً من الانفعالات الغرائزية التي تجد أرضاً خصبة في كل مرّة يشعر فيها مكوّن أو طرف بأنّه مستهدف بالتضييق والتهميش. وهناك تجارب ماضية دلّت إلى صحة هذا الاستنتاج، وكان ضحاياها من جميع الأطراف أو معظمهم، وهي مؤرّخة ومدوّنة.
ويرى الرجل السياسي نفسه، أنّ إسرائيل تتعمّد حالياً بانتهاكاتها، واستمرارها في قصف البلدات والقرى وجرف المنازل، والمراوغة وإصرارها على السيادة المطلقة بالنار، لا في الجنوب وعلى الحدود اللبنانية الشرقية مع سوريا فحسب، بل في كل لبنان كلما دعت مصلحتها، فرض حصار شبه كامل على لبنان، فتصبح سيادته صُوَرية. وهذا ما بدا واضحاً عندما هدّدت إسرائيل مطار بيروت إذا ما سمح القيّمون عليه بهبوط الطائرات المدنية الإيرانية بذريعة نقلها الأموال إلى «حزب الله» لاستخدامها في إعادة بناء قدراته العسكرية، ولو كان ذلك على حساب الحجّاج والمواطنين اللبنانيّين الذين احتُجزوا الخميس الماضي في مطار طهران، بعدما رفض القيّمون على «مطار رفيق الحريري الدولي» السماح للطائرة الإيرانية التي تقلّهم بالهبوط، خشية إقدام إسرائيل على عمل ما ضدّ المطار يكون ذا طابع انتقامي. وهذا الإجراء الذي جاء نتيجة التخوّف من اعتداء يُطاول المطار بأضرار بنيَوية، فجّر غضباً تُرجم في اعتصامات على الطرق المتصلة إليه أدّت إلى قطعها، ووضع الدولة أمام خيارَين أحلاهما مُرّ: التعامل بشدّة مع المجموعات الغاضبة التي أغلقت الطريق مع ما يمكن أن يؤدّي ذلك من ذيول ونتائج، أو التسليم بقطعها وهو ما يُعرقل حركة السير في هذا الشريان الحيَوي ويُلحق الضرر بمصالح المواطنين ويضع هيبة الدولة على المحك، خصوصاً بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة العهد الأولى. وهذا بالطبع ما تريده إسرائيل التي ترغب في محاصرة الطائفة الشيعية داخلياً بحجة محاربة «حزب الله» وإنهائه عسكرياً وأمنياً، وتجفيف مصادر تمويله لئلّا يعود قادراً على دعم نشاطاته الاجتماعية، وذلك باتباع أسلوب يَزيده إحراجاً لإخراجه، وحمله على القيام بتحرّكات تغذّي حذر الآخرين منه بمواقف تصعيدية لا تخدم الاستقرار. وهنا يَكمن الخوف.
ويقول مسؤول شيعي في مجالسه، إنّ القيادات في الطائفة روحية كانت أم سياسية، تعي ما تُخطّط له إسرائيل، وهي تتحلّى بالصبر وتبذل جهداً جباراً لضبط الأرض وترويض الانفعالات ونزع فتائل التفجير، وتقديم موجبات الوحدة الوطنية على ما عداها من اعتبارات في انتظار أن تنجلي الغمامة، وأن تعود الأمور إلى طبيعتها لأنّ لا مصلحة لأحد أن تتدحرج نحو الأسوأ مع انطلاقة العهد الجديد، وحكومة جديدة، يُراهن اللبنانيون على قدرتهما في نقل البلاد إلى حال أفضل. ولفَتَ هذا المسؤول إلى ضرورة «عقلنة» الألسنة التي لا تنفك تصوّب جارح الكلام إلى مكوّن فاعل ووازن داخل الطائفة، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى نتائج عكسية، ويزيد الناس التفافاً حول هذا المكوّن، وتأييداً له، ولو اقتضى الأمر معاضدته في أي ردة فعل قد تبدر عنه، مع الإشارة إلى أنّه يمارس حتى الآن سياسة ضبط النفس إلى أقصى الحدود بقرار منه، وليس عن ضعف، لأنّ عكس ذلك سيفتح الباب أمام مفاجآت لا تُحمَد عقباها.
وفي المقابل، يرى خصوم سياسيّون للثنائي الشيعي، أنّ تصوير ما يجري وكأنّه موجّه ضدّ الشيعة غير دقيق، وأنّ الإجراءات التي تطبّق هي إجراءات تُتبّع في البلدان ذات السيادة التي يسود فيها منطق القانون، وأنّ القرارات الدولية ملزمة وأي خروج عليها ستترتب عليه نتائج سلبية، وهذا يعني أنّ على إسرائيل أن تنفّذ قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1701 بحذافيره ومن دون أي مماطلة واجتهاد أو تفسير يَحيد به عن مضمونه وروحيّته ويُطيل أمد إحتلالها. ولأنّ التعنّت الإسرائيلي يتجاوز قدرة لبنان على لجمه إلّا بتكثيف إتصالاته الأممية والدولية والإقليمية لحمل تل أبيب على وقف انتهاكاتها، على «حزب الله» أن يضبط جمهوره، وألّا يتصرّف بانفعال ريثما تتمكن الحكومة من تذليل العقبات التي تحول دون إعادة الوضع إلى طبيعته. وإذا كان «الثنائي الشيعي» يشكو من حملات إعلامية موجّهة ضدّه، فإنّ إعلامه أيضاً لم يكن مقصّراً تجاه معارضيه. وأشار هؤلاء إلى أنّه إذا كانت الأمور تُقاس بخواتيمها، فإنّ أي طرف في نهاية المطاف لم يعترض على الحصة الوزارية التي حصل عليها الثنائي في حكومة العهد الأولى، ومنها وزارة المال على رغم من الضغوط الأميركية المطالبة بعدم تمثيل «حزب الله» في الحكومة وإسناد الوزارة المذكورة إلى أحد طرفَيه. وإنّ هذا يعني أنّ ما من رغبة في كسره، وإشعار بيئته بالمرارة. ثم إنّ الإجراء المتخذ في شأن استقبال الطائرة الإيرانية التي تقلّ مواطنين لبنانيّين، إنّما هو إجراء إحترازي لسلامتهم وسلامة المطار بعد التصريحات الإسرائيلية الواضحة. وفي قراءة متأنّية لما أورده المسؤول الشيعي، وجواب خصوم الثنائي، يمكن استنتاج الآتي:
أ - إنّ عامل انعدام الثقة بين المكوّنات السياسية الممثلة داخل الحكومة لا يزال قائماً، ولو أنّ لغة التخاطب في ما بينهم يشوبها أسلوب المداراة، والدوران حول المسائل الخلافية التي تتمّ مقاربتها بطريقة غير مباشرة.
ب - لا يزال الخلاف عميقاً حول مفهوم الأمن القومي والسيادة، وطريقة التعاطي مع إسرائيل. وخصوصاً طريقة المواجهة معها.
ج - النظر إلى دور الدولة في مواجهة هذا الوضع، طريقة تطبيق عناوين خطاب القَسَم إلى إجراءات ميدانية لبسط سلطة الدولة على كل الأراضي اللبنانية ومواجهة أي إختراق.
د - هناك انقسام شعبي عمودي بين اللبنانيّين تتداخل فيه السياسة بالطائفية، ويتقاطع مع تدخّلات خارجية سواء من المحوَر الغربي وحلفائه العرب، أو من محوَر الممانعة الذي تلقّى ضربة موجعة في حربَي غزة ولبنان الأخيرتَين.
إنّ لبنان لا يزال في غرفة العناية الفائقة، ويستعد لمرحلة النقاهة، وهذا يعني أنّ إمكان إصابته بانتكاسة واردة، ممّا يستدعي استباق حصولها بـ«أنتيبيوتيك» مناسب، والعمل على قطع الطريق على أي محاولة يكون الهدف منها إعادة إنتاج توتر ما لا يمكن للبنان هضمه في هذه المرحلة بالذات، خصوصاً في ظل الضغط الإسرائيلي، وانهماك الدول العربية في تتبع مقاصد وغايات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يروّج لـ«ترانسفير» لمصلحة إسرائيل ويفرض «الخوّات» على هذه الدول، في حين لا يبدو أنّ الوضع سيستقر بين بيروت ودمشق في ظل تعثر عملية إعادة النازحين السوريّين.
خلاصة القول: إنّ لا غالب ولا مغلوب في لبنان، والحرب الإسرائيلية أصابت كل لبنان ومكوّناته، ولو كان أحد المكوّنات الأكثر تضرّراً، لكن في الحساب الوطني، وحتى في الحساب الرقمي، على لبنان أن يلتقط الفرصة لينتقل من مرحلة الخاسر الأكبر إلى مرحلة الرابح الأكبر. وإنّ هذه الفرصة تتمثل بعودة الإهتمام العربي والدولي إليه ويجب استغلالها بحكمة وتوازن، وألّا تكون على نفسها قد «جنت براقش».
إعلان