الاعلام والسياسة... مقاربة حول الصراع العربي - الاسرائيلي
14 شباط 2025
09:33
Article Content
كما أن الأشجار المُعمِّرة كزيتون فلسطين، تشرب من أوراقها التي تلتقط رطوبة الأثير، كذلك هي السياسة؛ تتغذى من رحيق الاعلام إذا كان صافياً ومُنعشاً، وتتعثرُ بسببه اختناقاً إذا كان هذا الرحيق ساماً او مَقيتاً. وكما أن السياسة تعيش على الدوام ولو تبدلت أشكالها وطُرُق تعاطيها، وعمرها من عمر الحياة البشرية وتبقى متلازمة معها ما بقيت؛ فإن الاعلام وأساليب الدعاية يواكبان هذه السياسة ويعيشان على ضفافها، وتتبدَّل أشكالها وموضوعاتها ووسائلها مع تبدُّل الزمن. فبين السياسة والإعلام ترابطٌ موضوعي دامغ، فهو مرآة السياسة الناصعة إذا ما صدق القول، او وسيلة تجهيل أخطاء هذه السياسة، او تلميع قبائحها، والإنسان عدوٌ لما يجهل.
السياسة في وجهها الإيجابي الصحيح هي: فنّ قيادة الناس وتوجيههم ورعاية مصالحهم كما قال كمال جنبلاط، وهي وبالٌ قاتمٌ إذا ما تمَّ استغلالها على غير مقاصدها. كذلك هو الاعلام – خصوصاً بتلاوينه الحديثة – خيوط إشعاعٍٍ مضيئة تٌنير الدرب وتُغيث النفس إذا نقل الحقيقة ونشر الفضائل، بينما هو كالخناجر والسكاكين السامة إذا ما كان لتلفيق التهم، ولتبديل الحقائق وتزوير التاريخ، وإذا تحوَّل لبثّ الإشاعات المُغرضة، وقديماً قيل: إطلاق إشاعة مُشينة غير صحيحة عن شخص ما؛ كإطلاق الرصاص عليه.
يمكن إدراج عشرات، بل مئات الأمثلة على مدى تأثير الاعلام على السياسة، من خلال عملية توجيه الرأي العام، او من خلال صناعة الموضوع او تركيب الرواية، او من خلال ابتداع "مخدرات" فكرية، تحرُفُ انظار الرائي او السامع عن الحقيقة، وتدفعه الى تصديق ما هو واهٍ وليس له أي أساس. لكننا نكتفي على سبيل المثال، بذكر ما فعله الامبراطور الفرنسي نابليون بونابرت قُبيل غزوته لمصر في العام 1798، حيث أرسل ناشري الدعاية ليوزعوا بيانات تقول أنه قادم الى مصر لحماية الإسلام من أعدائه، بينما في كواليس دوائر الحكم في باريس حينها، كان يقال أنه سيقوم بحملة "لتأديب المسلمين" وهو القائل: كرِّر الخطأ ثمّ كرره فيمكن أن يصبح هو الحقيقة. اما رئيس وزراء إيطاليا الأسبق سيلفيو برلسكوني فقد وصل الى موقعه في العام 1994 من خلال انتخابات روَّج لها اعلامه الواسع الانتشار (كان يقال عنه صاحب أكبر امبراطورية اعلامية إيطالية) وهو مات في العام 2023 بعد أن أُدين بموجب أحكام قضائية كونه ساهم في تبييض الأموال وفي تجارة المخدرات وفي الخداع وحماية العصابات. ولا بد من التعريج على مقولة جوزيف غوبلز وزير دعاية المانيا أيام الفوهرر النازي اودلف هتلر، عندما كان يقول: "لا تتحدثوا عن أي هزيمة تصيبنا، فانشروا الدعاية الكاذبة، فلا بد أن يعلق شيء منها في أذهان الناس". كُل ذلك يؤكد أن قادة سياسيين كُثر استخدموا الإعلام لغير مقاصدهِ التوعوية الشريفة، وسخَّروه لخدمة غرضيتهم العنصرية او الاستعمارية، ولتضليل الناس لتحقيق مآرب استبدادية خاصة.
وكلنا يذكر كيف نجح الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في إعادة استنهاض الأمة بعد هزيمة العام 1967، من خلال خطاب مُتماسك وصريح، عمَّمه اعلامٌ رصين – ولو كان يميل الى الشعبوية – قاده محمود سعيد ومحمد حسنين هيكل. وساهم في مرحلة لاحقة في ترسيخ ثابتة قومية هامة في أذان غالبية العرب، وهي أن قضية الشعب الفلسطيني، هي قضية العرب المركزية جميعهم، وساهمت الفكرة فيما بعد غياب عبد الناصر في توحيد الرؤى العربية المتباينة إبان حرب العام 1973، وقدَّمت نموذجاً عن وَزنَة هذا التضامن في حسابات السوق السياسية والعسكرية الدولية، لا سيما عندما استخدم سلاح النفط في المعركة.
لكن أبشع صورة لهذا الاعلام؛ أنه روَّج لأسطورة تمَّ توليفها في ليلة صيف في العام 1864. ويذكُر أكثر من مرجع؛ أنه في ذلك العام كان قادة "الحركة الصهيونية" يبحثون عن مكان مناسب لإقامة دولة لليهود، وكانت الخيارات متعددة، بين أن تكون في كشمير شمال الهند، او في جزيرة القرم جنوب روسيا او في مقاطعة كارولينا الشمالية في الولايات المتحدة الأميركية، فأقترح تاجر الأراضي الصهيوني المليونير روتشيلد الجدّ، بأن تكون على أرض فلسطين، لأن سعر الأراضي أقلُ ثمناً هناك، وقال لهم: هناك؛ يمكن تأسيس فكرة عقائدية تساعد على تسويق المشروع بين أبناء الديانة اليهودية، ومع "المسيحيين الجُدُد" الذين ساهموا في الترويج للمقولة الواهية والخاوية والتي ليس لها أي أساس من الصحة، وهي تعتبر زوراً أن القدس يجب أن تعود عاصمة لدولة بني إسرائيل تمهيداً لعودة السيد المسيح الى الأرض كما يروجون. وكل تلك المقولات غير صحيحة، ولا تنص عليها النسخ الأساسية لكتابي الثورات والإنجيل(م) قبل تحريف نسخ عنهما، حتى أن ما يقال عن استحقاق عملية إعادة بناء الهيكل (أي هيكل سليمان) دعاية إعلامية مغشوشة، ولم يعثُر أي من المُنقبين عبر التاريخ على أي أثر لهذا الهيكل كما يوصفونه على أرض فلسطين. وقد ساهمت الدعاية الصهيونية في بلورة الفكرة لدى جمهور واسع، خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية.
تطور وسائل الاعلام أفاد البشرية من ناحية، وربما سبَّب بعض الأضرار لها من ناحية أُخرى. فهو فضح الجرائم الشنيعة التي ترتكب في أكثر من مكان في العالم، خصوصاً إبان الحرب على غزة التي استمرَّت أكثر من 14 شهراً، حيث رأى العالم أجمع كيف يتم قتل الأبرياء الفلسطينيين العُزل بدمٍ بارد، وبأحدث الأسلحة الأميركية، وكيف يُحرم الأطفال والنساء والشيوخ من المأوى والطعام والشراب، بينما بديهيات حقوق الإنسان وفقاً للمعاهدات الدولية – لاسيما اتفاقيات جنيف الأربعة للعام 1949 – تعطي هؤلاء الحق بالسلامة الجسدية وبتأمين مقومات العيش، كونهم يرزحون تحت الاحتلال كما تؤكد القرارات الدولية، لاسيما القرار 242/للعام 1967، وقرار محكمة العدل الدولية في تموز/يوليو للعام 2024.
لكن هذا التطور في وسائل الإعلام ساهم في إغفال الحقيقة من ناحية ثانية، لا سيما في الوسائل المملوكة من شركات تجارية وترويجية تعمل بهدف نفعي، او هدفها تحقيق مآرب ميثولوجية، او عقائدية غير سويَّة. وبالفعل فقد رأينا الكثير من الصور والتقارير في هذا الاعلام تشوِّه الحقيقة، فيتمّ شيطنة صاحب الحق وتصويره معتدٍ، بينما يتمّ تلميع صورة المعتدي وإخفاء جرائمه، ومنحه مشروعية لا يمتلكها بواقع الحال.
ومن هذه الزاوية؛ يمكن التعريج على نموذج تعاطي غالبية الإعلام الغربي المتطور مع ملف الصراع العربي – الإسرائيلي. وعلى الدوام يمارس هذا الاعلام انحيازاً منقطع النظير في تقديم القضية كأنها تحامل جماعي عربي ضد إسرائيل بهدف تدميرها، متجاهلين كون إسرائيل هي الدولة المعتدية، وتغتصب فلسطين وتحتل أراضي عربية أخرى، والقانون الدولي يوثِّق هذه الحقائق بموجب قرارات عديدة اصدرتها الهيئة العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن منذ العام 1947 حتى اليوم، وتتجاهل غالبية وسائل الاعلام الغربية التي تتأثر بالدعاية الصهيونية، او تستفيد من مجموعات الضغط الصهيونية المتمكنة مالياً ؛ نشر الوقائع، وهي تنقُل مشاهد لأسر أو قتل عدد من الأشخاص ربما تكون حصلت بمناسبة قيام أصحاب الأرض بمقاومة المُحتل شرعاً وفق لما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة للعام 1945، وتتغافل عن نقل المآسي الإنسانية التي لم يسبق أن حصل مثلها في التاريخ، أقصد مآسي قطاع غزة، ومنها استشهاد ما يقارب 60 الف ضحية، وجرح أكثر من 110 آلاف شخص، وتدمير كامل منشآت القطاع.
والإعلام العربي ما زال قاصراً عن توضيح الحقائق أمام الرأي العام العالمي، او أن مجهوداته غير كافية على أقل تقدير، ولا بد من إحداث قفزة نوعية في هذا السياق. خصوصاً عندما نرى أن بعض الإعلام الغربي يدافع عن أفكار جهنمية مُخيفة، تخالف كل القيم والأعراف الإنسانية، وتتناقض مع كل المواثيق الدولية التي تحمي الانسان وحقوقه الثقافية والتاريخية وملكيته المقدَّسة، كما في حقه بالعيش في وطن الآباء والأجداد. وبالفعل؛ فقد باشرت ماكينات إعلامية نفعية بالترويج لإقتراحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتعتبرها زوراً بأنها تخدم الإنسانية، وتساعد على إيواء المشردين الفلسطينيين، ولكن اقتراحاته بالواقع تعتبر تمهيد لاقتراف جريمة دولية، وتمادٍ امبراطوري صَلف، وهو يحاول فرض عملية تهجير قسرية على الشعب الفلسطيني، وطرده من أرضه الى الخارج، بهدف إرضاء العصابات الصهيونية، او لتنفيذ مشاريع تجارية ربحية، بينما هذه الاقتراحات لاقت معارضة واسعة من غالبية دول العالم، واستنكرتها الأوساط العربية والإسلامية عن بكرة أبيها. وتتغافل هذه الوسائل واقعة المطالبة بعودة هؤلاء المنكوبين الى أرض آبائهم وأجدادهم في حيفا ويافا وعكا وصفد والقدس، وتنفيذ هذه العودة المُحقة أسهل عليهم، والأفضل أن يرافقها طلب ترامب، وكل المجتمع الدولي بعودة المستوطنين المغتصبين الذين قدموا الى فلسطين عنوةً الى بلدانهم الأصلية في الخارج. وبالمناسبة فإن ترامب يطلب من اللاجئين الى اميركا الخروج منها كونها أرض للأميركيين كما يقول. نرى أن من واجبات الاعلام الموزون أن يروُّج لعدالة الأرض و"السماء" التي تؤكد على حق الفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة على أرضهم.
معلومات الميديا الجديدة تفوح بالمغالطات، ولا بد من المواكبة العربية لتصحيح هذا الاختلال. والمسؤولية مشتركة في هذا السياق، منها ما يمكن أن تتحمله الحكومات، ومنها ما هو واجب على المواطنين، وبعض هؤلاء يتغافلون أحياناً عن التشوهات، او يتبنون مقاربات غير صحيحة، ربما لأن بعضهم يرزحون تحت نير الضغوطات المعيشية او العجز، ناهيك عما تفرضه ظروف الهجرة للذين أُجبروا على ترك أوطانهم بسبب ضيق الحال في أوطانهم، او بسبب الاضطرابات السياسية والأمنية. وما يهمني تأكيده ها هنا: هو أن التطور الرقمي سمح لكل فرد أن يساهم في ترويج المعلومات والأخبار التي تخدم القضية العربية، ولم تعُد الصحف المطبوعة او الإذاعات المسموعة او الشاشات المتلفزة؛ وسائل اعلام حصرية كما في السابق.
ولا بد أخيراً من التأكيد أننا اليوم في عصر الدعاية والإعلام بإمتياز، ولا مفرَّ من تحمَّل المسؤولية المشتركة في الدفاع عن قضايانا العربية المُحقة بالسلاح كما بالأقلام، ومناصرة القضية الفلسطينية، ولكي نبين للعالم أن الفلسطينيين أصحابُ حق ويتعرضون للاعتداء بأساليب تتعارض مع كل قواعد القانون الدولي ومع قرارات محكمة العدل الدولية.
ويجب وضع الإمكانيات المالية العربية الكافية في هذا السياق. وثروات العرب ليست غنيمة للنصابين والشبيحة من قادة الدول الكبرى المتهورين، والذين يتحكمون بمصير البشرية في هذه الغفلة القاتمة من الزمن.
وبالمناسبة؛ لا بد من أن نحيي المواقف العربية والدولية الرافضة لإقتراحات الرئيس ترامب الجهنمية فيما يتعلق بفلسطين، ونشدُّ على ايدي الصامدين في غزة وفي الضفة وفي جنوب لبنان وفي جنوب سوريا وفي الأردن وفي مصر، وتحية لكل العرب المتمسكين بالقيم القومية الرائدة. فلا بد للقيد أن ينكسر.
*محاضرة في ندوة للوحدة الإعلامية في المعهد العالمي للتجديد العربي 13/2/2025
إعلان