الأقليات في سوريا بين الدويلة ومحنة الحدود
07 شباط 2025
12:28
Article Content
يثير مصطلح الاقليات في المشرق العربي هواجس الكثير من المجموعات الإثنية والعرقية وكذلك بعض الأنظمة والدول، وهنا لا بد من مقاربة موضوعيّة وعلمية لمفهوم الأقليات. وباعتقادي ان الكثير من الناس ليس لديهم الإحاطة الوافية والدقيقة بهذا المصطلح، أضف الى ذلك انه حتى على المستوى الدولي لم يتم الاتفاق على تعريف موحّد له. فقد اختلفت التعريفات بحسب الخلفية التي يُنظر بها لهذا المفهوم، فمنهم من اعتمد العدد لتعريف الأقلية ومنهم من اختار الفاعليّة داخل الدولة ومنهم من دمج بين المفهومين.
وبعيداً عن النظريات فمسألة الأقليات واقع موجود وبقوة نظراً لارتباطها بالهوية والخصوصية الثقافية والدينية لكل مجموعة وبالخوف من فقدان تلك الخصوصيات، وهذا الخوف مُبرّر خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز أزمة الهويات وتنامي الصراعات حولها، بعد ان كانت ساكنة لعقودٍ طويلة، إضافةً لبروز نزعة القوّة في العالم وتراجع دور الأمم المتحدة في الدفاع عن حقوق الانسان والجماعات وانحسار مبدأ الأمن الجماعي، ما أدى الى تفشي الخوف عند الأقليات على مصيرهم.
وبنظرة سريعة على جغرافية تواجد الأقليات في المشرق العربي نرى بانها تتوزع بمجملها على حدود الدول الجغرافية كالأكراد والدروز أو في مناطق ذات أهمية استراتيجية كالعلويين في اللاذقية وطرطوس منفذ سوريا البحري الوحيد. بعد تحرير سوريا من نظام الأسد المجرم أثير موضوع الأقليات، ان من حيث المشاركة في القرار السياسي وتكوين السلطة الجديدة، أم من حيث الحقوق واحترام التنوع الاثني والديني، أم الخوف من التضييق على حريّة الأقليات الدينية والإثنية، والأكثر من ذلك الخوف على وجودها كمجموعات.
كما هو معروف تدخل المؤامرات على الدول من نقاط ضعفها، ومن أبواب ونوافذ تركيبتها المجتمعية، فعلى مدى العصور كان اللعب على الوتر الإثني او القومي هو من العوامل الأساسية في إضعاف الإمبراطوريات ولاحقاً الدول الوطنية، وكانت معظم أسباب النزاعات عقائدية تتعلّق بالهوية أو بالحفاظ على الخصوصية وحرية المعتقد. مع العلم ان الأهداف الإستعمارية كانت أبعد من ذلك، كإيجاد أسواق جديدة وتأمين المواد الأولية التي تحتاجها لتطوير وازدهار صناعاتها وغيرها.
عادت نغمة الدويلات الطائفية والحكم الذاتي للأقليات الى الظهور في سوريا تحديداً لاعتبارات مختلفة، ويأتي أخطرها ما تحاول اسرائيل تسويقه، وهو مشروع قديم، يهدف الى حماية هذه الأقليات من خلال قيام دول دينية وبدعم مباشر منها، وخاصة مع الأكراد والدروز. لكن نرى وبشكل واضح هذه الأيام وعي النخب والقيادات الدرزية الدينية منها والمدنية لخطورة تلك الطروحات والوقوف بقوّة بوجه المشاريع التفتيتية، والتي تم إفشالها فيما مضى من قبل المناضل الكبير سلطان باشا الأطرش ورفاقه، وكذلك كان هناك دورٌ أساسيٌ لكمال جنبلاط واجماع درزي واسع في منع تحقُّق تلك الفكرة، ويظهر جليّاً تمسُّك طائفة الموحدين الدروز العريقة باصولها العربية الصافية وبوحدة سوريا بكافة أطيافها وضمن حدودها الدولية. فالخطر على مشرقنا العربي هو في الفكر الصهيوني وأهدافه التي تقوم على انشاء دول دينية في المنطقة تتمتع بالنقاء الديني والقومي تحت حجج واهية مثل عدم امكانية التعايش مع الآخر.
أما المسألة الكردية فهي معقدة وتأثيراتها تطال دولٍ عديدة، وتحتاج الى تبصرٍ وحكمةٍ في المعالجة نظراً لتداخل الكثير من العوامل ومن الدول في حلها او تأزيمها، وللحقيقة تشكل هذه المسألة تحدياً كبيراً للأكراد السوريين تحديداً وللسلطة السورية الإنتقالية التي تسعى لإعادة بناء دولة موحدة ذات سيادة كاملة وتامّة. فالواقعية السياسية تحتم وجود رؤية وطنية للمستقبل وسط هذا البحر الهائج، ومن مصلحة الشعب الكردي ان يعي مستقبله، والذي يتمثّل في عدم انفصاله عن الدولة السورية الأم تحت اي مسمّى، وعدم الإنجرار وراء المشاريع الخارجية التي تُقدَّم له، على انها جالبةٌ الازدهار والاستقرار والسلام.
ويندرج التحدي الأكبر تحت عنوان اندماج المكون العلوي في الدولة السورية المقبلة، وهنا يجب التنبه لأمر مهم وهو ان إجرام وجور النظام الأسدي لا تتحمل وزره الطائفة العلوية، فقسم كبير منها عانى ما عانته باقي المكونات من تهميش وظلم، مع ان العديد من العلويين استفادوا من الإمتيازات التي كانت قائمة أثناء حكم البعث البائد، وهذا يحتِّم على من سيتولى مقادير السلطة التصرّف بحكمة وعدل وتحكيم القضاء في محاسبة المرتكبين والابتعاد عن الانتقام والثأر الذي يؤدي الى زيادة الشرخ بين فئات المجتمع السوري ويستجلب العنف وإراقة الدماء.
التنوع الإثني والديني في مجتمعاتنا المشرقية غنى لدولنا في حال أحسنّا استثماره وادارته بطريقة صحيحة، واذا تمكنّا ووصلنا الى بناء دولة المواطنة، دولة الكفاية والعدل دولة المساواة وحكم القانون. هذا ممكن تحقيقه في سوريا الجديدة بشرط صياغة دستور عصري حديث يأخذ في الحسبان تكوين المجتمع وتنوعه، ويراعي صحة التمثيل من خلال قانون انتخابي يطمئن الجميع ويعطيهم حقهم ودورهم في المشاركة في السلطة والحكم. ويتطلب ذلك تحديد الأولويات والأهداف الوطنية للوصول الى الغاية النهائية وهي بناء دولة عادلة علمانية ديموقراطية ومستقرة تحترم التنوع وتراعي التعددية الموجودة.
مع أن دول المشرق العربي أنشئت بمؤامرة استعمارية خبيثة وهي اتفاقية سايكس بيكو، ورغم بعض التوجهات الحالية لدى قوى خارجية لاستغلال الفوضى الراهنة لتفتيت المُفتّت وتجزئة المُجزّأ، إلا أنه ليس من مصلحة أي دولة اليوم إعادة رسم حدودها أو تقسيمها الى دويلات طائفية او قومية، لان هذه المشاريع غير قابلة للحياة ولا تخدم سوى الصهيونية العالمية وأعداء الشعوب العربية، ومن تدغدغه افكار الاستقلال والحكم الذاتي تحت اي عصبيّة او مُسَمّى هو اما جاهل أو مشبوه وبالتالي ينفّذ أجندات اقل ما يقال عنها بانها مدمِّرة وجلاّبة حروب ودماء.