التشريعات العربية فيما يتعلق بحقوق الانسان بين الواقع والمرتجى
06 شباط 2025
10:32
آخر تحديث:06 شباط 202510:33
Article Content
في واقع التشريعات العربية التي تتعلَّق بحقوق الانسان؛ يمكن رؤية محفظة واسعة من النصوص التي تلحظها اللوائح المُستندية في غالبية الدول العربية، في الدساتير المرجعية، وفي القوانيين الوضعية العادية، وفي التدابير الإدارية التي تنظِّم شؤون المؤسسات العامة في الدول المعنية. وعلى الضفة المقابلة يمكن اعتبار الأعراف والتقاليد العربية - خصوصاً الإسلامية منها – ترِكة غنية تستند اليها الأجيال المتعاقبة، لترسيخ احترام الذات البشرية، واعتبار الرأفة والمساواة قاعدتين أساسيتين في سياق التعامل مع الآخر، فالناس سواسية كأسنان المشط، ولا فرق بينهم الا بما يتصل بالجهد والتقوى، وفق تعاليم الرسول الكريم.
ويمكن الإشارة الى بعض النصوص التي تتعلق بحقوق الانسان والتي اعتمدتها دول عربية، على سبيل المثال لا الحصر. فدستور المملكة المغربية للعام 2011 لحظ في مقدمته، او في "التصدير" أن المملكة تؤكد تشبُثها بحقوق الانسان كما هو متعارف عليها عالمياً، في إشارة واضحة للإلتزام بمعايير الإعلان العالمي لحقوق الانسان للعام 1948. وفي دستور جمهورية مصر العربية للعام 2019، تناولت المادة 5 منه احترام حقوق الانسان وحرياته، وفي أن الدولة ومؤسساتها تعتمد من دون مواربة؛ مبدأ المساواة بين المرأة والرجل في جميع الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية ولاقتصادية والثقافية. وفي المملكة العربية السعودية التي تستند على اعراف دستورية متوارثة، أشار النظام الأساسي للحكم الصادر في العام 1992 الى واجبات مؤسسات الدولة بحماية حقوق الانسان وتعزيز مفهوم الحريات العامة. بينما جاء في مقدمة دستور الجمهورية اللبنانية للعام 1989 الى أن لبنان يحترم الحريات العامة ومبدأ المساواة بين المواطنين، ويلتزم بمعايير الإعلان العالمي لحقوق الانسان. والدول العربية الأخرى التي لم يتسنَّى ذكرها في هذه العُجالة؛ لا تتنكر في مواثيقها التشريعية لمبادئ حقوق الانسان، ولا للحريات العامة الملاصقة لهذه الحقوق.
أما في مجال التشريعات العربية المشتركة – أو الموحدة – فيكفي الإشارة الى الميثاق العربي لحقوق الانسان الذي أقرته القمة العربية التي انعقدت في تونس بالعام 2004، بعد تأخرٍ طويل. وجاء التوقيع على الميثاق عقِبَ ضغوطاتٍ سياسية واجتماعية ونقابية واسعة، قامت بها أحزاب وجمعيات متنوعة، لا سيما منها منظمات الدفاع عن حقوق الانسان في دول عربية مختلفة، وكانت بمعظمها محسوبة على المعارضات الوطنية، وهذه الجمعيات عقدت مؤتمراً موسعاً في قبرص بالعام 1983، لأن أياً من الدول العربية لم تقبل بإستضافة أعمال مؤتمرها، خوفاً من اغضاب بعض الأنظمة التي كانت تنفرُ من الشعارات التحررية، وأصدر المؤتمر توصيات حقوقية هامة، بما فيها ضرورة اعتماد اعلان عربي موحد لحقوق الانسان.
والميثاق العربي لحقوق الانسان الذي ولد بعد ما يزيد عن 50 عاماً من ولادة الإعلان الأوروبي لحقوق الانسان؛ كان غنياً بمواده ومُحدداته التي تناولت حق المواطن بالحماية الجسدية وفي العمل وفي تأسيس أسرة والتعبير عن الرأي، والحق بحصوله على ملكية خاصة من دون تحديد وبالتنقل والسكن أينما يشاء وفق القوانيين المرعية، وكان الميثاق أكثر شمولية من الإعلان العالمي، بحيث أنه تألف من 53 مادة، بينما نص الإعلان العالمي لحقوق الانسان اقتصر على 30 مادة فقط.
وفي الميثاق العربي لحقوق الانسان صياغة متقدمة تتناول تفصيلات مهمة تحمي الحريات العامة والتنوع والحقوق، ولكنه حمل عوامل تعطيله في ذات الوقت، لأن المادة 53 منه أشارت الى حق الدول العربية الموقِّعة على الإعلان؛ بالتحفُّظ على أي مادة في الميثاق، على أن تبلِّغ ذلك لأمين عام جامعة الدول العربية عند تسليم وثائق الإنظمام النهائية. وشكلت هذه المادة لغماً معوقاً لمسيرة تطبيق مُندرجات الميثاق، لأن عدد من الدول استخدم مضمونها للتحلُّل من مقيداته، لا سيما منها التي تتعلق بالحريات السياسية وبالمساواة بين المرأة والرجل، لأن بعض الدول العربية اعتبرت أن المواجهة مع إسرائيل تفرض اعتماد قانون الطوارئ، وهذا القانون الذي أنشأ لاتخاذ تدابير حفظ الأمن العام أيام الاضطرابات او النكبات؛ استخدمته بعض الأنظمة لأغراض حزبية وسلطوية، ونكَّلت بالمعارضين تحت جناحه، وبقي نظام الطوارئ في دول محددة معتمداً لأكثر من 40 عاماً متواصلاً. بينما استفادت بعض الدول الأخرى من المادة 53 للهروب من تطبيق مبدأ المساواة بين المرأة والرجُل بذريعة تعارضها مع الشريعة الإسلامية، وهذا غير صحيح على الإطلاق، لأن الاسلام مجَّد المرأة، وحفظ لها مكانة مرموقة ومتقدِّمة.
اما التدابير الإدارية التي تتخذها دول عربية بمناسبة تطبيقها لقوانين مرعية الاجراء؛ فقد هشَّمت احياناً بمقاصد القوانيين التي تحمي حقوق الانسان بحججٍ واهية. ففرضت بعض الدول على المواطنين مراجعة فروع الأمن قبل حجز تذاكر سفرهم الى الخارج، بذريعة السهر على أمنهم ومتابعة رعايتهم، بينما كان القصد الفعلي من هذه التدابير؛ مراقبة المعارضين للنظام، او استثمار ولاء بعضهم لإغراض تخدم أهداف الحكام او القوى المهيمنة على السلطة.
ولا بد في سياق عرضنا من التعريج، ولو بعجالة، على القوانين والقرارات الإدارية التي تنظِّم الأحوال الشخصية، لا سيما ملفات الإرث والزواج والنسب، وهي بمعظمها تتعارض مع المعايير الدولية التي نصَّت عليها مواد الإعلان العالمي والاتفاقية الدولية لمنع كل أشكال التمييز ضد المرأة للعام 1979، وللعهود الدولية الثلاث التي تحمي الحقوق "المدنية والسياسية" و"الاقتصادية والاجتماعية" و"الثقافية والتربوية" للإنسان، وغالبية الدول العربية موقِّعة على هذه المواثيق، ولكنها تتحلَّل من بعض مندرجاتها بذريعة تعارضها مع الدساتير الوطنية.
أما حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق المُعوَّقين، او ذوي الاحتياجات الخاصة، فيتفاوت احترام تطبيقها بين دولةٍ عربية وأخرى، كما أن بعض الدول لديها قوانيين خاصة تعالج هذه الموضوعات من خارج المنظومة الدولية، لا سيما فيما يتعلق بالتدابير التي تخصّ المعوقين، ومعايير المساواة بين المرأة والرجل في شؤون العمل وحق إعطاء الجنسية للأولاد والكفالات الأُسرية الأخرى، بينما نلاحظ عدم تبوُّء المرأة للمراكز القيادية على شاكلة واسعة، ولا يتجاوز عدد النساء العاملات في المراكز السياسية والتشريعية المتقدمة أكثر من 10 بالمئة قياساً الى الرجال، حتى أن هذه النسبة عامة، وهي تتغيَّر بين دولة وأخرى، صعوداً او هبوطاً.
في المُنتظر، او المرتجى، فيما يتعلق بحقوق الانسان في الوطن العربي، فهو مطلب التطبيق الصحيح للقوانيين السارية المفعول، واحترام التدابير التي تنصّ عليها المعاهدات الدولية، ذلك أن الكثير من أجهزة الحكم في دول عربية – لاسيما مؤسسات الأمن – لا تطبِّق المعايير كما يجب، وهي تتحايل على الألفاظ والعبارات لتمرير مآربها، ولا يوجد أجهزة رقابة شفافة وصارمة تتابع صحة التنفيذ.
ويتطلع جيل الشباب من العرب، كما المخضرمون من المثقفين، الى ولوج مرحلة التعافي بعد أن طال انتظارها. فلا التغييرات السياسية التي حصلت في بعض الدول العربية كانت كافية لمعالجة المشكلة، ولا ما أطلق عليه "الربيع العربي" نجح في تحقيق الطموحات المرجوة، بل ساهم في انتاج بعض الفوضى القاتلة في عدد من الدول، بينما المتطاولون على مبادئ حقوق الانسان، ومنتهكي حرمة المنازل والمُتطفلين على خصوصيات الناس؛ يزدادون، والتجسُّس على المكالمات الهاتفية الخاصة مباحة أمام أجهزة الأمن في غالبية الدول، وقوة رجال السلطة في بعض الدول، أشدُّ تأثيراً من قوة القانون، متجاهلين كون تطبيق القانون على الوجهة الصحيحة، هو الذي يحفظ الأمن والاستقرار على الوجه الصحيح. فلا أمن من دون مشروعية.
وقد تكون الحلقة الأهم في الآمال المرتجاة؛ هي تفعيل دور العدالة، وفرض استقلالية المحاكم عن السلطة التنفيذية، حيث تتدخل هذه السلطة في كل شاردة وواردة احياناً، وتشوِّه عمل القضاء، وغالباً ما يتحوَّل الشاكي، او المُحتجّ على انتهاك؛ الى ضحية، وتتفاقم معاناته من جراء غضب المتنفذين، لأنه تجرأ على الاحتجاج او الشكوى على ممارساتهم.
لا بد من إعادة النظر ببعض مندرجات الميثاق العربي لحقوق الانسان للعام 2004، وتحريره من المُقيدات التي تلزمه بإحترام التقاليد، ولكن من دون تحديد هذه التقاليد بدقة، بحيث يبقى للسلطات اختيار ما يلائمها منها وتجاهل ما يتعارض مع مصلحتها. كما لا بد من إزالة البنود التي تسمح للدول الأعضاء بالتحلُّل من الإلتزام بالميثاق عندما تشاء، وهي غالباً ما تحتجَّ بالمصلحة الوطنية العليا للدولة، بينما الوقائع تشير الى أن هذه المصلحة هي مجرَّد فائدة للحاكمين او للنظام.
وفي هذا السياق؛ يتطلع الرأي العام العربي الى انتاج صيغ حكمية تمنع كل استغلال لحالات الطوارئ او لحالات فرض الاحكام العرفية، للإقتصاص من المعارضين وتقييد الحريات، والبرلمانات العربية مطالبة بسنّ تشريعات تفرض قيود على السلطة التنفيذية لعدم استسهال فرض التدابير الاستثنائية إلا في حالات الحرب، او في أزمان الكوارث الطبيعية او في حالة التأكُّد من وجود ما يُهدد استقرار الدولة بالفعل.
والدول العربية التي تنتسب بغالبيتها الى العهود الدولية التي ترعى حقوق الانسان السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي ولدت بإجماع دولي عام 1966؛ مطالبة بتطبيق التدابير التي تتلاءم مع أحكام هذه العهود، لا سيما فيما يتعلَّق بحق التعبير عن الرأي وبحرية الصحافة، وبحرية التعليم على اطلاقها. فالتقارير التي تصدرها المفوضية السامية لحقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة؛ ما زالت تشير الى وجود انتهاكات في غالبية من الدول العربية، وتقييد للحريات العامة، خصوصا فيما يتعلَّق بحرية الصحافة.
ولا بد من الوقوف جلياً أمام قوانيين الأحوال الشخصية السارية المفعول في دول عربية عديدة، فهي تعطي حق التجنيس لمن لا يستحق احياناً، وتحرم المستحقين فيها احياناً أخرى. وعلى سبيل المثال: يمكن ذكر ملف إعطاء الهوية العراقية او السورية لبعض الأشخاص على خلفيات سياسية او طائفية او مذهبية. بينما هناك اشخاص كثيرين مستحقين لهذه الجنسية محرومون منها ـ خصوصاً من أبناء الأمهات الذين لا يملكون نفس جنسية الأب، او من الآباء الذين لا ينتمون لنفس جنسية المرأة في الدولة المعنية.
وفي موضوع التنصُّت على الأوضاع الشخصية؛ لا يجوز أن تبقى الحياة الخاصة للمواطنين العرب تحت مقصلة الرقابة الحكومية ذات المقاصد الفئوية. ولا بد من انتاج نظام مواطنة عربي مُتجرِّد عن كل المؤثرات العرقية والجهوية والطائفية والسياسية، فللجميع الحق بالتمتُّع بالحقوق الأساسية للإنسان كما عددتها بنود الاعلان العالمي لحقوق الانسان للعام 1948، خصوصاً منها الحق بأن يكون للإنسان الشخصية المدنية المستقلة التي تمارس دورها الخاص، او الذاتي، بكل تفاصيله، من دون أي مقيدات سوى ما يفرضه القانون على الجميع، كما في حق الحصول على العلم وحق العمل والحق بالحماية الشخصية والقضائية.
وفي سياقٍ آخر؛ لا بد للوطن العربي بكل مكوناته السيادية والإدارية، من تطبيق المعاهدات العربية التي تلحظ حرية التجارة البينية وحرية التنقل والإقامة، وقبل كل شيء احترام مُحددات التنوع ضمن الوحدة، بما في ذلك احترام خصائص الكيانات الجهوية والدول. كما لا بد من التبصُّر الى المستقبل، والإنتقال من وضعية الشطارة في انتاج المشكلات والتوترات السياسية والأمنية، الى وضعية الشطارة في مواكبة العصرنة وابتداع التسويات والتفاهمات.
(*) محاضرة القيت في ندوة لمركز الدراسات القانونية والاجتماعية لجامعة اغادير – المغرب.