"الشيخة الأرثوذكسية"... قراءة في لوحة الرسّام شوقي دلال
29 كانون الثاني 2025
16:48
آخر تحديث:29 كانون الثاني 202516:52
Article Content
"الشّيخة الأرثوذكسيّة" قراءة في لوحة الرسّام شوقي دلال لأم حسيب
من اللوحات التي توقّفت عندها ( وكثيرًا ما أتوقّفُ مليًّا أمام لوحات الفنّان شوقي دلال) لوحة "الشّيخة الأرثوذكسيّة "أم حسيب كما يعرفونها في بلدتها ضهر الأحمر في راشيّا. وإن تقف، إنّما تتامّلُ حياة عاشتها أم حسيب بكلّ تلاوينها وتفاصيلها متماهيةً مع عادات الدروز وتقاليدهم، ومشاركة في أفراحهم وأتراحهم هانئة راضية لا يفرّقها عنهم سوى القيد الطّائفي الذي يصنّفُ النّاس وفق ولاءاتهم الدّينيّة، حتّى كادت أن تدخل مذهبهم لو لم يُقفل بابُ الدّعوة منذ ما يقرب الألف عامٍ ونيّف.
وتساءلتُ: لماذا يعاكسُ شوقي دلال السّائد، وبماذا يفكّرُ – وهو العارفُ بخفايا اللبنانيين – والنّاسُ، إلى أين يتّجهون!؟ يميطُ اللثام عن أيقونةٍ مسيحيّة، وينقّبُ في تراث الماضي البعيد ليعثرَ على قنطرةٍ حاملةٍ فكرةً، أو جسرٍ يُجسّدُ العلاقة بين النّاس على اختلاف مشاربهم كي يسمو بهم " من كهوف الشّرق، من مستنقع الشّرق إلى الشّرقٍ الجديد". ويجولُ على المعالم الدّينيّة؛ يرسم المساجدَ، والكنائسَ، والخلوات، ووجوه المشايخ والآباء، في زمنٍ يقامرُ فيه الآخرون بالبلاد والعباد، ويبحثُ عن ورقة تينٍ يغطّي بها سوءةَ المتمذهبين، والموتورين، والنّاّفخين في نار الفتنة، وأرباع المثقّفين الذّين يصطادون السّمك في حوض الحمّام. وهو يعرفُ أن نهرَ الحياة لا يوقفهُ نقيقٌ من هنا أو صراخٌ من هناك.
والشّيخة أم حسيب( ) شجرةٌ دهريّةٌ في هذا الجبل، عصفورٌ دوريّ يألف الشّقوق وأحواض البيوت، وحيث تبيتُ الرّيح في مهبّ الإياب، شجرة أكاسيا لم تغادر تربتها، وإذا ما احتاجت إلى الماء والنّور والهواء ترضعُ الحجر وتشربُ ليلَ النافذة إذا ما جفّ ماءُ النّبع وانقطعت السّاقيةُ، ( كان الملك الفرعونيّ تحوتمس الثّالث يرضع من الإلهة إيزيس ويتخيّلها وهي على شكل شجرة أكاسيا).
واللوحةُ سمفونيّة صفراء تتدلّلُ على الألوان، فالأصفرُ ينسكبُ انسكابًا في حائط اللوحة حتى ليخيّلَ للناظرِ إليها أن الشّمسَ بأشعّتها القرمزيّة استوطنت هذا الجدار. ولا غروَ في ذلك، فالأصفرُ عندهُ أسلوبُ حياة ومدادُ ريشةٍ ينأى بها عن لون الغياب والموت والانطفاء إلى لون الحضور والأمل والرّجاء. وإلى لون الإيمان بعودة الرّوح إلى العالم رغم شساعة مساحة الفراغ الرّوحي والأفق المفتوح على الحروب المؤجّلة. ويأخذك من خريفيّة المشاهد إلى طلاوة الرّبيع وخضرة السّهل، وصلابة الجّبل. وإلى حميميّة الأماكن حيثُ صورة الوطن المُرتجى ماثلة في هذا الموزاييك المجتمعي الذي تشبههُ تلك الشّيخة الأرثوذكسيّة التي نذرت عمرها لخدمة الكنيسة والتي تُعدُّ شهيدةً في طريق الجلجلة على دروب الصليب والخلاص.
لقد واءمت الشّيخة أم حسيب بين انتمائها إلى الكنيسة وخدمتها، وبين انتمائها إلى محيطٍ آخر يعكسُ ثقافةً توحيديّةً يلتقي في خلالها مع القيم السماويّة الواحدة في فلسفة العبادة والانفتاح ومراكمة الإيمان من أجلِ تحرير الذّات من شيئيّة العالم المادّي وكابوسيّته.
وفي الفناء الخارجيّ من الكنيسة تبدو الشّيخة وهي تذرعُ المكان جيئةً وذهابًا، تستذكرُ الماضي وحكاياته، وتجسّدُ الحضورالأبهى في ردهات الكنيسة، وتحفر وجهها على جدرانها المُصابة بتقادم الأزمنة والحجارة المُلوّحة بأشعّة الشّمس، والمتماهية بطبيعة النّشاط البشريّ من حولها.
وتطرحُ صورة الكنيسة حاجة المؤمن المنشغل بتجلّياتِ العشق الإلهيّ إلى حاضنةٍ تغتني بإشراقاتها، ويندلعُ في أفضيتها مهرجانُ النّور والفيض ليغذّي استمرارَ الحضور وحركيّة المشهد من خلال انفتاح الشّرفات على مشهد الرّذاذ المنبعث من أفضية النّور السّماويّ. فالفيضُ يبقى كامنًا ومهدّدًا بالتّوقّف من دون وجود مؤمنٍ يستقبلُ تلك النّفحات الشّعشعانيّة، ويفتحُ نوافذ قلبه لإشراقةِ النّور، ويندفعُ بكلّيّته لتلقّي هذا التّشكيل الثّريّ لانبثاق الضّوء وانعكاسه في آن. ولهذا ظلّت أم حسيب تفتحُ قلبها لعبورالنّور، وتستقبلُ الفيض الإلهيّ ولو بقيت وحيدة.
والشّيخة أم حسيب يعضدها هذا النّور، ويسندها ظلّها الذي تتوكّأ عليه، وعصاها الحاملة عدّاد العمر، والشّمس التي تبعثه من داخل الكنيسة، وينبثقُ من الخلف، من الباب المتّكئ على ذاته من دون مزاليج. وما اللون الأحمر المخضّب بالصّفرةِ المتسلّل من الباب إلا كوّةُ رجاء واستجابة لإشاراتٍ تخترق حاجز الفردانيّة لاستيلادِ مديّاتٍ جديدةٍ تغتسلُ بالنّور الفيضيّ المتطهّر بالهداية والصّيرورة والسّلام.
لوحةُ الشّيخة الأرثوذكسيّة شاهدٌ على زمنٍ جميل، وعلى وطنٍ لم تكسرهُ عادياتُ السّنين، وعلى حياةٍ عاشها اللبنانيون ببساطتها وعفويّتها بحيث لم يكن يعكّرها شيء قبل أن تنتصب المتاريسُ في النّفوس، فتأخذ هذا الوطن الجميل وجهة غير وجهته، وتُلبسهُ ثوبًا خلاف إرادته، فيتمزّق الثّوب ونبردُ نحن في أصقاع الأرض.
ولشوقي دلال باقة محبّة وقنطرة عبور وارفة كي يبقى يأخذنا إلى أقاصي جميلة نشعرُ معها أنّنا نُولدُ في كلّ مرّةٍ من جديد.
إعلان