مشاريع الاستثمار العام المهجورة: هل تعود للحياة؟
25 كانون الثاني 2025
11:55
آخر تحديث:25 كانون الثاني 202512:02
Article Content
وسط كل ما نعيشه في هذا العالم، لا يزال اللبنانيون ينتظرون دولتهم الانتهاء من إنجاز مشاريع عامة كطرقات وبنى تحتية كان من المفترض أن تنتهي منذ سنوات، أم أقله اعادة الحياة لمشاريع عامة تحولّت إلى متاحف بعد هجرها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، بعد عام من الآن، ستطفئ طريق حريصا - درعون شمعتها العاشرة، للاحتفال بعقدٍ من أعمال توسيع وبنى تحتية، لم تُنجز بعد بشكل كامل. فبحسب رئيس بلدية درعون –حريصا، هذا المشروع تسلّمه مجلس الانماء والاعمار ولُزّم للمتعهد حنا خوري، بحيث رُصد مبلغ 8 مليون دولار، وبدأ العمل عليه منذ العام 2016، وكان يجب أن ينتهي خلال سنتين أو ثلاثة، إلا أنه توقف في العام 2019 رغم إنجاز نحو 75% من الأعمال. سبب تأخير الأعمال حينها، كان تعديل المرسوم والخرائط، لتأمين المدخل والمخرج الجديدين لموقف مزار سيدة لبنان – حريصا، ضمن ورشة تجديده، ورُصد مبلغ 500 ألف دولار إضافي لذلك. أشغال موقف المزار انتهت بعد حوالى السنة، أي العام 2020، حيث وقعت الازمة الاقتصادية، ولم يتمكن المتعهد من اكمال المشروع، تحت حجة أن أمواله في مصرف لبنان هي على سعر صرف 1500 ل.ل.، وبالتالي لم يقدّم الشيكات كون مصاريفه بالدولار الأميركي، وبالتالي، لا يزال بحاجة نحو مليون و180 ألف دولار كي ينتهي من الأشغال بشكل كامل.
هذا المثال هو واحد من عشرات الأمثلة، عن مشاريع طرقات عامة "هُجرت"، يقع ضحيتها المواطن، بعد أن زاد وضع الطرقات سوءاً بسبب البلوكات الاسمنتية المنتشرة بشكلٍ يُسبّب أحياناً خطراً على المارّة خصوصاً مع غياب الانارة. وكنا تقدمنا بطلب معلومات لمجلس الانماء والاعمار ووزارة الأشغال بشأن لائحة لهذه المشاريع لكن لم نلق الردّ.
السياسة والاقتصاد يعرقلان المشاريع العامة
ليست مشاريع الطرق وحدها غير المستكملة، بل هناك مشاريع عامة اخرى كمحطات تكرير وبنى تحتية، تلاقي المصير نفسه، بالرغم من أنها تشكل دعمًا للاقتصاد. في السياق، يشدد رئيس نقابة المقاولين المهندس مارون الحلو على واجب الدولة باستكمال المشاريع الحيوية بأي شكل من الأشكال ضمن خطة وزارية، خصوصاً تلك الممولة من الصناديق الخارجية، التي تبني قرار التمويل وفقاً لدراسة جدوى مُنجزة.
ويذكر الحلو وجود عشرات الأمثلة عن مشاريع كبرى ممولة من صناديق خارجية توقفت أو أٌلغيت، إما لأسباب اقتصادية أو أسباباً سياسية. فاقتصادياً، توقفت جهات خارجية عن التمويل إلى أن تدفع الدولة حصتها التي قد تبلغ نحو 10 أو 20%، اضافة الى اصلاح سوء إدارة المتابعة تنظيمياً وادارياً. أما سياسياً، فقد اعطى مثالاً على مشروع توسيع اوتوستراد جونية الشهير، بعد أن تأخرت الدولة بإزالة المخالفات، ودخلت السياسة على الخط السريع، ليقوم بعدها الاتحاد الأوروبي بإلغاء الالتزام.
مفاجأة في الموازنة: الأموال التي تُصرف أقل من التي تُرصد
إن ألقينا نظرة على موازنات الأعوام السابقة الأخيرة، وتحديداً من العام 2017 الى العام 2024، باستثناء عامي 2021 و2023 حيث لم تقرّ الموازنة، في ما يتعلّق تحديداً في الاستثمارات العامة، يتبيّن أمرٌ غريب، وهو أن ما يُرصد من أموالٍ هو أكبر بكثير من ما يُصرف.
بحسب الجدول، يُمكن ملاحظة، أن الأرقام المرصودة بدأت بالتدني مع السنوات، اثر الازمة الاقتصادية اللبنانية، أما في العام 2024 فقد رصد مبلغ أكبر بالليرة اللبنانية، لتغيّر سعر الصرف. إلا أن المفاجأة بحجم الأموال التي لم تُصرف، وإن جمعناها كلّها من العام 2017 إلى العام 2023، يتبيّن أن هناك نحو تريليارات (7,053,822,644,000) لم تُصرف من أصل نحو 8 تريليارات (8,456,507,439,000) رُصدت تقريباً خلال هذه الأعوام.
ففي العام 2017 مثلاً، رُصد مبلغ نحو 3 تريليونات (3،098،028،518،000)، في حين لم يُصرف سوى نحو تريليار (1,446,226,925,000)، أي أن هناك نحو تريليارين لم تُصرف (1,651,801,593,000). المثال الأعجب هو في العام 2022 حيث رُصد مبلغ نحو 3 تريليار (3,165,562,744,000) ولم يُصرف منه سوى 293 مليون (293,879,731,000) أي أن هناك نحو تريليارين و 871 مليار لم تُصرف (2,871,683,013,000) - وتجدر الإشارة إلى أن موازنة العام 2022 لم تأخذ بعين الاعتبار سعر صرف السوق.
ماذا يعني ذلك؟ ولماذا لم تُصرف هذه الأموال؟
تؤكد الخبيرة الاقتصادية الرئيسية ومديرة التعاون والشراكات في معهد باسيل فليحان المالي سابين حاتم، أن ما نراه في الموازنة لا يعبّر عن حجم الاستثمار العام الحقيقي، كون العديد من المشاريع الاستثمارية الكبرى لا يتم توجيهها من خلال الموازنة العامة، كونها تُموّل عبر جهات خارجية، ونادراً ما تُحتسب تكاليف صيانة هذه المشاريع والتكاليف الأخرى ذات الصلة في الموازنة.
وفي التفاصيل، تقدّر حاتم أن الفرق بين الإيرادات والنفقات يعود الى 3 اسباب اساسية بشكل عام:
-1عدم توفر الاعتمادات: ترصد الموازنة الأموال بناء على تقديرات للعام المقبل، وبحسب الايرادات المقدرة والنفقات الموجبة يتم تحديد الجداول. وفي حال لم تكن الايرادات على قدر التقديرات والتطلعات، يحتّم تعديل الموازنة لنقل الاموال والاعتمادات من مكان الى آخر أكثر أولوية بالنسبة لهم، واولى التضحيات عادة ما تكون في الأموال المرصودة للاستثمار العام لنقلها إلى مكان آخر أكثر حاجة، كالرواتب وحسن سير الإدارة، على سبيل المثال.
-2سوء التخطيط: عادة ما يفشل المشروع بسبب سوء التخطيط والتنفيذ، كما سوء التنسيق بين الادارات المختصة، والفساد وغيره. مثلاً، المبالغة في تكاليف المشروع في حين يتبيّن لاحقاً أن تكلفته أقل، وبالتالي لا تُصرف كل الايرادات. وأحياناً العكس، يتبيّن أن المشروع بحاجة الى تكاليف أكبر، فيتم التأخر بتنفيذه. وأحياناً أخرى على سبيل المثال، لا يتم دفع الأموال المرصودة في الموازنة للمتعهّد كونه لم ينفذ كامل الأعمال. ليس فقط ذلك، بل قد يكون السبب أيضاً عدم وضع تصوّر كامل لنفقات الصيانة المستقبلية للمشروع خلال التخطيط، وتشير حاتم الى وجود عدة مشاريع مثل محطات تكرير للمياه ومشاريع بنى تحتية توقفت لأن الدولة لم تتمكن من تأمين أموال للصيانة، كونها لم تأخذ بعين الاعتبار هذه التكاليف خلال التخطيط.
-3تمويل مشاريع من خارج الموازنة: عادةً ما تموّل مشاريع كبرى عبر قروض أو هبات خارحية، لا تُرصد في الموازنة. وتلفت حاتم الى أن أحياناً لا يتم اتباع المسار القانوني للهبات، فتقوم الجهة المانحة بالصرف المباشر أم تمرّ بشكل مباشر عبر مجلس الانماء والاعمار أو الوزارة المعنية.
وبحسب حاتم، أحياناً تكون الاسباب كلّها مجتمعة، ومثالاً على ذلك، مشروع أكبر محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي في سهل البقاع. فقد كشفت صحيفة "لوريان لو جور" أنه تم بناء المحطة بفضل قرض ميسر من الحكومة الإيطالية بلغ أكثر من 22 مليون يورو وأصبحت قيد التشغيل منذ تشرين الأول من العام 2017، إلا أنها اليوم مهددة بالإغلاق بسبب عدم تمكن الدولة من استلام ادارتها مادياً وعملياً، في ظل عدم تخصيص أموال لتشغيل وصيانة المحطة في مشروع الميزانية لعام 2025. فالحكومة الإيطالية قد تجاوزت بالفعل ما كان متوقعًا منها من خلال تمويل المشروع لمدة سبع سنوات، وقدمت روما تبرعًا استثنائيًا بقيمة 4 ملايين يورو إضافية في 2022 لتمكين المحطة من الاستمرار في العمل نظرًا لعجز الدولة عن دعمها. ورغم تخطي المهلة، لا تزال الدولة غير قادرة على تسلمها، بسبب سوء التخطيط، ما يضع المشروع تحت خطر إدراجه ضمن لائحة المشاريع المتوقفة.
إدارة الاستثمار العام في لبنان: عوائق وتحديات
كلام سابين حاتم، تؤكده دراسة لمعهد باسل فليحان المالي أعدها العام 2023، بشأن "تعزيز إدارة الاستثمار العام في لبنان". يؤدي ضعف الإدارة الى مشاريع غير ناجحة ذات اكلاف عالية وتكون عرضة للتأخير مع مكاسب اجتماعية ضعيفة، الأمر الذي يؤثر على الاقتصاد اللبناني من ناحية غياب الاستثمارات المحلية والأجنبية.
وتظهر الدراسة تحديات عدة لادارة الاستثمار العام في لبنان أبرزها: ضعف الإطار المؤسسي والقانوني مع غياب تشريعات لإدارة الاستثمار العام ووجود نصوص تنظيمية مفكّكة، غياب عمليات موحدة لتخطيط الاستثمار العام ونقص التنسيق (في البلدان الأخرى، هناك وحدة تنسيقية على مستوى كامل الدولة)، التخصيص غير الفعال للموارد، سوء اختيار المشاريع والرقابة والتقييم.
وتكشف الدراسة أنه باستثناء برنامج الاستثمار الرأسمالي الذي وُضع في العام 2018 ، لا يتوفّر أيّ دليل على وجود خطة استثمار وطنيّة شاملة توجّه القرارات المتعلّقة بالمشاريع ذات الأولويّة وما إذا كان ينبغي تنفيذها، وفي أيّ تسلسل وما هي طرق تمويلها.
اضافة الى ذلك، إنّ عدم إدماج الشركات بين القطاعين العام والخاص في عملية الموازنة، يجعل من الصعب اكتشاف مخاطر المالية العامة وتصنيفها وتقييمها والتخفيف من حدتها، ومن ثم يصعب تقييم الآثار الطويلة الأجل على استدامة المالية العامة.
يساهم هذا كلّه بفتح الباب على عمليات فساد، وسط غياب عمليات الرقابة والتقييم، وانتشار آليات التلاعب في المناقصات والتواطؤ مع الشركات ذات العلاقات السياسية التي استحوذت على غالبية المشاريع الاستثمارية اعتباراً من العام 2008 (المركز اللبناني للدراسات، 2021).
سلبيات إدارة الاستثمار العام يشرّع الأبواب للفساد
في هذا السياق، تشير دراسة لمركز النمو الدولي بعنوان "شراء البنية التحتية العامة في ترتيبات تقاسم السلطة في مرحلة ما بعد الصراع" إلى تحليل مجموعة بيانات شاملة لكل عقود المشتريات الخاصة بالبنية التحتية التي منحها مجلس الإنماء والإعمار في لبنان خلال الفترة من 2008 إلى 2018. وتستعرض الدراسة مدى استفادة الشركات المرتبطة سياسياً من قيمة المشاريع الأعلى من خلال علاقاتها السياسية.
وأعدت الدراسة (الصفحة 9) قائمتين للشركات المرتبطة سياسياً. الأولى، التي تُسمى PCF1 تحتوي على جميع أعضاء مجلس إدارة مجلس الإنماء والإعمار بالإضافة إلى جميع النخب الحزبية المعروفة علنًا بأنها تابعة لهم. أما القائمة الثانية، التي تُسمى PCF2، فتحتوي على جميع أعضاء البرلمان والوزراء الذين خدموا بين عامي 2008 و2018، بالإضافة إلى نخب الأحزاب السياسية الأخرى التي ليس لها ارتباط مباشر بمجلس إدارة مجلس الانماء والاعمار.
ولحظت الدراسة (الصفحة 12) إجمالي 383 عقدًا لعدد إجمالي من 536 مشروعًا، وبقيمة إجمالية قدرها 3.98 مليار دولار. تقدمت 135 شركة لهذه العقود، 31 منها (أي 23%) كانت مرتبطة سياسيًا بعضو في مجلس إدارة الانماء والاعمار أو أتباعهم PCF1؛ 20 منها (أي 15%) كانت مرتبطة بمجموعة أوسع من النخب أو سياسي في منصب خلال تلك الفترة PCF2، بينما 84 شركة (أي 63%) لم تكن مرتبطة (الشكل 3). وعلى الرغم من أن الشركات المرتبطة بـ PCF1 تشكل أقل من ربع الشركات، إلا أنها فازت بأكثر من 40% من العقود وحققت 63.5% من القيمة الإجمالية للعقود. بالمقابل، فازت الشركات غير المرتبطة فقط بنسبة 22% من إجمالي قيمة العقود. بالنسبة لشركات PCF2، فقد حققت 15% من الشركات 19% من العقود و14.5% من إجمالي قيمة العقود.
وردّاً على سؤال بهذا الشأن، يرى رئيس نقابة المقاولين أنه من الصعب تغيير نتيجة المناقصات بتدخل سياسي في ظل دفتر شروط واضح. أما التداخل بعض الأحيان بين السياسة والمقاولين، فلا ينفيه الحلو، ويقول: "هذا يعود للوضع السياسي في البلد كالمحسوبيات واداء السياسيين، وربما بعض المقاولين يستفيد من قربه من السياسيين إلا أن المسؤولية تعود للسياسيين أولاً الذي يسمحون لنفسهم بالتدخل بما لا يعنيهم. والمقاولين ثانياً الذين يتكلون على السياسيين، إذ في القطاع الخاص ما من مناقصة يمكن للسياسة أن تتدخل بها لأن دفتر الشروط هو الحكم"، آملاً بأن يكون العدل والقانون حاضراً بقوة فتكون الأعمال خارج المداخلات السياسية ولا يشوب الدولة أي شائبة.
دور رقابي
ورغم دور الجهات المعنية في المراقبة، إلا أن أحيانا لا قدرة لديها على إتمام دورها لوجود نقص في الكادر البشري أم المالي، اما في حال أن الجهة المانحة خارجية فلن تتمكن من المراقبة بشكل دقيق على مراحل المشروع كافة، وفي حال تمكنت من ذلك، ولاحظت وجود أي خلل، تعمد الى وقف التمويل، كمشروع اوتوستراد العربي مثلاً، حيث لم تدفع الدولة حصتها، فقررت وقف المشروع الى أن تدفع الدولة ما عليها.
الحلّ لأزمة الاستثمار العام
أمّا الحلول بحسب دراسة "تعزيز إدارة الاستثمار العام في لبنان"، تكمن بإعادة النظر بالأطر الناظمة، واعتماد خيارات مؤسسية واضحة بعيدة عن منطق التنازع والتضارب، وبناء القدرات في مجالات اختيار وتقييم المشاريع، والمحافظة على إدارة فعالة للأموال العامة تتكامل مع الأطر المالية وعمليات الموازنة.
وعدّدت الدراسة، عدة خيارات مؤسسية يمكن اعتمادها ضمن الإطار التنظيمي والتشريعي الحالي تسمح بالإرتقاء بعمليات إدارة الاستثمارات العامة وتحديثها: أولاً، إنشاء وحدة مركزية لادارة الاستثمارات العامة داخل وزارة المالية، أو ثانياً، تحويل مجلس الإنماء والإعمار إلى هيئة متخصصة بإدارة الاستثمارات العامة والتنمية المستدامة.
وفي سياق الحلّ، يعتبر رئيس نقابة المقاولين مارون الحلو ان الأهم أن يكون هناك تخطيط، أكان ضمن وزارة تخطيط أم وزارة اخرى، فهذا أمر يعود للدولة وامكاناتها المادية، قائلاً: "مش مهمّ نكتّر أجهزة بتعمل بالآخر ذات الشغل". لكنه يتابع، أنه في حال كان هناك نهضة مقبلة للبلد، فالأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك، كهيئة خاصة تهتم بالبناء والاعمار، قائلاً: "هذا حتماً حاصل لأن المانحين لن يقبلوا بعد اليوم بإعطاء أي فلس من دون معرفة مكان وفعالية صرفه".
اذاً، من الواضح أن لبنان بحاجة ماسة الى نقلة نوعية حديثة في قطاع الاستثمارات العامة بدءاً من تحديد المسؤوليات، وصولاً للتنسيق الرقمي، لاستكمال مسار التعافي الشفاف الذي ينتظره الجميع.