من الإمارة إلى الدولة… حقيقة المسألة الدرزية
22 كانون الثاني 2025
05:57
آخر تحديث:22 كانون الثاني 202510:53
Article Content
على خلفية عملية 7 أكتوبر، وفي إطار رد الفعل الإسرائيلي، صدر كلام عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يتحدث فيه عن إعادة تشكيل الشرق الأوسط. جاء هذا الكلام متساوقاً مع رؤيا إيديولوجية طرحها اليمين الديني في إسرائيل وتتعلق بحسم الصراع وإنهاء القضية الفلسطينية وتغيير الميزان الديموغرافي لصالح اليهود في فلسطين التاريخية. تزامناً، ومع دخول حزب الله في الحرب، ارتفعت أصوات لبنانية مختلفة تتحدث عن طروحات تبدأ بالفيدرالية وصولاً للعودة إلى لبنان الصغير. ومع بروز العامل الدرزي في فلسطين والجولان أخذ بعض المثقفين الدروز على عاتقهم الحديث عن مظلومية درزية مُستندين إلى منطق ثنائي حيث يشككون بالهوية العربية والإسلامية لطائفة الموحدين الدروزفي تماهي مع المنطق الذي يريد أخذ الدروز إلى حلف الأقليات من جهة، ويتحدثون عن غبن أصاب الطائفة في لبنان نتيجة القيادة السياسية التي تغاضت عن تحصيل حقوقهم كمؤسّسين للكيان من جهة أخرى. وإذ يصعب فصل تنامي هذه النظريات عن المخاض السياسي والاجتماعي الذي يمر به لبنان ويطال المنطقة بشكل عام، إذ يجب أيضاً الاعتراف بالتحديات الجدية التي تواجه طائفة الموحدين الدروز اليوم، كما وغيرها من الطوائف بدرجات أكثر أو أقل، إلا أن ذلك يعود إلى تراجع الواقع الدولتي المؤسساتي أمام الواقع المجتمعي والمذهبي في كل المنطقة. أما بالنسبة للدروز بشكل خاص فذلك لا يخرج عن سياق التحديات التي واجههوها في الماضي وأكدوا خلالها على هويتهم السياسية وعلى منشئهم وعمقهم العروبي والإسلامي في ظل تلاقي القيادتين السياسية والدينية على تلك الثوابت.
وتعود حقيقة التعريف السياسي لهوية الموحدين الدروز إلى الحدود التي رسمها أركان الطائفة في إطار وحدة الموقف الديني، والذي لا يتناقض مطلقاً مع المحتوى الفلسفي الحاضن والجامع الذي يتمايزون به، ولا مع الإطار المسلكي الذي تعبّر عنه المرجعيات التوحيدية في المفاصل التاريخية التي تواجه الموحدين الدروز. وهنا لا بد من تناول ثلاثة مستويات:
اولاً: الهوية العربية الاسلامية
الدروز كجماعة لها حضورها وتاريخها العريق في المنطقة لا يعيشون في الوقت الحالي أزمة هوية تتعلق بانتمائهم القومي أو الحضاري، وليس هناك حالة تناقض بين انتمائهم الوطني لبلدهم وانتمائهم القومي لأمتهم العربية. وغالباً ما نجحوا في اتباع منهج التكامل بين البعدين الوطني والقومي. فالدروز في سوريا وظّفوا نتائج ثورتهم عام 1925 في صالح كل السوريين، ولاحقاً رفضوا القتال مع نظام الأسد في مواجهة الشعب السوري، ووضعوا حراكهم في السويداء في إطار الثورة السورية وامتداداً للتراث الذي أرساه سلطان باشا الأطرش ويؤكّدون على وحدة سوريا. والدروز في لبنان يسلّمون بلبنان كوطن نهائي رافضين مشاريع التجزئة ومؤكّدين على عروبة لبنان التي قدّموا التضحيات الكبيرة لأجل تثبيتها. والدروز في فلسطين كانوا أوّل من انتفض بوجه قانون القومية ويهودية الدولة وانتصروا لأخوتهم في الجولان عندما أراد الاحتلال مصادرة أراضيهم، وتضامنوا مع أخوتهم في لبنان وسوريا أيام المحن، ويرفعون في منازلهم صور قادتهم وزعمائهم التاريخيين، وذلك رغم بعض المشاهد النافرة التي لا تغيّر من حقيقة انتمائهم القومي.
أما بالنسبة للخيار السياسي الذي اعتمده قادة الدروز وزعماؤهم تاريخياً فإنه حاسم باتجاه الهوية العربية الإسلامية رغم الطبيعة المركبة والمُربِكة للوعي القومي الذي تنامى في ظل تعدديات طائفية. وقد شارك أعلام الدروز ومثقفيهم في مرحلة تشكيل الوعي القومي في المشرق بشكل كبير، وأسّسوا الجمعيات التي نادت بالعروبة والتحرر، وساهموا في محاولات الإصلاح الإسلامي آخر أيام الخلافة العثمانية مطلع القرن الماضي، وساهموا في التصدي للمشروع الصهيوني وقاتلوا في فلسطين في ثورة العام1936، والجدير بالذكر أنه في ذلك الحين كانت الوكالة اليهودية ترسل المبعوثين إلى سلطان باشا الأطرش وإلى قادة الدروز في لبنان لاقناعهم في الحد من تدفق المقاتلين الدروز للقتال في فلسطين، وفي العام 1948 شغل الدروز مناصب قيادية في جيش الإنقاذ، وترأسوا أولى الحكومات العربية (حكومة شرق الأردن)، ورفضوا قيام دولة درزية في اطار تجزئة المنطقة إلى كيانات طائفية، كما رفضوا كل مشاريع الانفصال التي اشتغل عليها الصهاينة مع الأقليات حتى قبل قيام دولة إسرائيل، وتصدّوا لمشاريع التقسيم في لبنان، وتحالفوا مع الثورة الفلسطينية في مشروع عربي ديموقراطي في واحدة من أنبل الظواهر السياسية في تاريخ المنطقة على الإطلاق، وقدّموا ألاف الشهداء في التصدي للغزوات الخارجية من أيام الصليبيين وصولاً إلى الاستعمار الحديث.
ولم تنتقص هذه الأدوار التي قاموا بها من الخصوصية التي ميّزتهم، لا بل شكلت الإضافة الأهم على حضورهم السياسي انطلاقاً من ثباتهم على هويتهم وأصالتهم التي راهن عليها القادة العرب ودفعت أحدهم لوصفهم بأنهم سيف الإسلام.
أما هذه الخصوصية فقد كانت منطلقاً للانخراط مع الآخرين وليس للانغلاق بعيداً عنهم، وكانت محكومة بالحضور السياسي والفكري الذي أضافه المعلم الشهيد كمال جنبلاط، أولاً كفيلسوف اختبر وعاين الامتدادات الدعوية التي أجراها الدروز في الحدود التي أوصلتهم إلى أقصى الشرق، وثانياً كإشتراكي أممي وضع جماعته على خارطة الفعل في المنطقة والعالم، بما يتجاوز الإطار اللبناني والعربي.
ثانياً: علاقة الدروز بالكيان اللبناني
يُرجع كثير من المؤرخين للدروز عملية "استخلاص الفكرة اللبنانية" التي تحدث عنها الأب يواكيم مبارك والتي أضاف عليها كمال جنبلاط اعتباره أن "هذه الفكرة، والنزوع إلى الاستقلال، هي من فعل الدروز".
وأيام الإمارة ضمّت أحزابهم مواطنين من كافة المناطق والطوائف وكانت بمثابة التشكيلات السياسية والشعبية الأولى التي تُعتبر كمنشأ علماني للحياة السياسية والحزبية. واتسم الانتقال من عهد الإمارة إلى ما يُسمى بلبنان الصغير بطغيان الصيغة الطائفية التي أجّجها بشير الشهابي وتفاقمت مع أحداث 1840 – 1862، وقسّمت المجتمع وحوّرت الفكرة اللبنانية التي كانت، قبل ذلك، ليبرالية الطابع. وفتح ذلك الباب أمام الفتن الداخلية وتنامي التدخل الخارجي الذي أدت نتيجته إلى ضرب صيغة التكامل المجتمعي بين الفئات لصالح فكرة الجماعات الطائفية، وكرّس الاستعمار الفرنسي هذه الصيغة في دستور 1926 وأعاد عهد الاستقلال تثبيتها بالصيغة المؤقتة عام 1943.
اقتيدَ الدروز إلى الطائفية تبعاً لعدة وقائع وأحداث كان لها أن تُغيّر التوازنات المجتمعية وتُنهي عهد الإمارة، وفي ذات الوقت أن تترك أثراً كبيراً بوجدانهم. وبالتالي فالدروز أُلبسوا الصيغة الطائفية التي اختُرِعت لإضعافهم، وبذلك انزاحت الفكرة اللبنانية عن مسارها الليبرالي والعلماني. هذا الانزياح الذي حاول كمال جنبلاط تصحيحه لاحقاً.
وشكل الانتقال من لبنان الصغير إلى لبنان الكبير حدثاً سياسياً جرى على خلفية انهيار الخلافة العثمانية وبرعاية النظام الدولي الذي خلفه، وبالتوازي فقد كان ذلك بمثابة تطور لفكرة الاتحاد القومي في المنطقة والعالم، إضافة إلى تطور الأشكال التي شهدها النظام السياسي في جبل لبنان بدءاً من عهد الإمارة التي تصدّرها الدروز وصولاُ إلى المتصرفية. وكل هذه الأشكال شهدت تقاسماً للسلطة لم يكن ليتناسب مع الأحجام الديمغرافية بقدر ما كان يستجيب لرغبة التدخلات الخارجية في تعزيز توازنات جديدة. المُختلف في صيغة العام 1943 أنها حافظت على الطائفية في الدستور بشكل مؤقت بحسب المادة 95، ما كرّس نظام الامتيازات الطائفي وقد شكّل ذلك صدمة، ليس فقط للدروز إنما لكل اللبنانيين الذين كانوا يأملون في بناء دولة على غرار الدول الحديثة بمؤسسات وطنية تتجاوز الأطر الطائفية والمذهبية الضيقة.
وقد تعاطى نظام الامتيازات الطائفي مع الدروز وفقاً لمحاصصة عددية وليس تبعاً للدور الذي لعبوه تاريخياً، وهذه المحاصصة لم تحفظ لهم مشاركة مُعتبرة في النظام. وكان التحدي في كيفية مواجهة هذا الغبن. واجه كمال جنبلاط هذا الواقع من منطلق وطني، إذ لم يلجأ إلى التحشيد على مظلومية أو حرمان يلحق بالدروز فقط. من هنا استطاع بناء مشروع وطني لاصلاح النظام السياسي، عابر للطوائف والمناطق، تحلقت حوله معظم الفئات السياسية والاجتماعية، في استعادة لمشهد التعاون بين الفئات الذي سبق نظام القائممقاميتين، وتثبيتاً للفكرة اللبنانية بصيغتها العلمانية.
وتحلّق الدروز حول هذه الخيارات الوطنية متجاوزين الخصوصية، وذلك في معادلة من الفهم قادت كمال جنبلاط إلى البناء على مبدأ العقد الاجتماعي الذي يدعم مشروع الدولة والمواطنة. هذا النموذج من القيادة السياسية في لبنان، بحيويتها وحكمتها وعلاقاتها الدولية، أعطت الدروز وزناً وحضوراً سياسياً تجاوز وزنهم العددي والديمغرافي بمرات ومرات. فالأمر أخذ يتعلق بالخيارات التي تضطلع بها القيادة السياسية بما يؤمّن حضوراً يفرض نفسه على السلطة ولا يقوم على استجداء مكانة أو دور من أي كان.
ثالثاً: حقيقة المسألة الدرزية
وإذا كان هناك مسألة درزية في الحقيقة فإنها تتعلق بكيفية مواجهة المشروع الإسرائيلي الذي يتجدّد من خلال الجهود التي يقوم بها الاحتلال للاستثمار بالحالة الدرزية بالتوازي مع الحرب التي يشنها على الفلسطينيين. وهذا مشروع قديم، سابق حتى على قيام دولة إسرائيل، وكان الصهاينة يدفعون باتجاه دولة درزية في سياق تفتيت المنطقة تمهيداً لقيام دولتهم، وقد تحركت الوكالة اليهودية بعد وعد بلفور في عشرينيات القرن الماضي في زيارات استكشافية إلى سوريا ولبنان، وساعدها الانتداب الفرنسي في ذلك، وتجدّد سعيهم بعد حرب العام 1967 ولاحقاً في أعقاب الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982. والواقع أن كل مشاريع الدولة الدرزية التي كانت تهدف إلى قيام كيان أقلّوي لحماية إسرائيل كانت في الوقت ذاته تهدف إلى التخلص من دروز فلسطين ونقلهم إلى الدولة المزعومة. واليوم مع تجدّد حلم الصهاينة وتمكن اليمين الديني من فرض مشاريعه وسياساته على الدولة في إسرائيل، وتثبيت يهودية الدولة بعد إقرار قانون القومية، فإن هذا الهدف يعود ليكون في صلب الاستراتيجية الصهيونية المتجددة.
ومؤخراً يتقصّد الاحتلال تظهير الحضور الدرزي في الجيش الإسرائيلي وكأنه رئيسي في هذه الحرب، إضافة إلى محاولة الاستثمار التي أظهرها الاحتلال الإسرائيلي في حادثة مجدل شمس وفي الأحداث التي جرت في سوريا قبل سقوط النظام وبعده. وهذه الظاهرة هي جزء من مشروع تستثمر فيه القيادة الاسرائيلية وتهدف من خلاله إلى التأثير على دروز لبنان وسوريا ودفعهم إلى التشكيك بمرجعياتهم، وتفكيك علاقاتهم بعمقهم العربي والاسلامي. ويُطل المشروع بشكل جديد يتم فيه توْليَة المنحى الذي تؤثر به إسرائيل على بعض الدروز، مُستغلّة تراجع الأوضاع في كل من سوريا ولبنان. وهذه فكرة خطيرة فيما إذا تساوق معها بعض البسطاء عندنا تبعاً للنظرية التي تعمل جماعة نتانياهو على تسويقها تحت شعار أن "حلف إسرائيل مع الدروز لا ينتهي عند حدود الدولة".
الشرق الأوسط الذي يسعى إليه نتانياهو هو هذا الذي يتكفّل بهيمنة إسرائيل وإنهاء القضية الفلسطينية، ومن بديهيات هذا المشروع تجديد العمل على الاستثمار بالأقليات، بذات الشكل الذي تم بعد وعد بلفور، وبشكل مدروس بعناية ومرصودة له إمكانات كبيرة، وللأسف هناك مَن يُطرَب لنغمة الخصوصية في هذه المنطقة بالمعنى الذي يأخذه إلى الإنعزال بدولة شأنها أن تحرس إسرائيل، أو إلى تحالف أقليات يقوم بذات المهمة. لكن بالتوازي فإن المسار السياسي الذي رسمه الدروز تاريخياً يعكس التزامهم بهويتهم الثابتة التي لا تترك المجال، لأي كان، لتحريفها أو التخريب عليها.