وليد جنبلاط ليس مجرد زعيمٍ سياسي عابر أو زعيم طائفة الموحدين الدروز فحسب؛ هو شخصية تاريخية بامتياز، تختصر مزيجًا فريدًا من التحدّي والحكمة، المغامرة والحذر، البرغماتية والرؤية بعيدة المدى. من قريطم إلى ساحة الشهداء، ومن السويداء إلى دمشق، لم يكن وليد جنبلاط يومًا أسيرًا للحظة أو أسيرًا لحساباتٍ صغيرة، بل كان دائمًا لاعبًا أساسيًا في صياغة مشهد سياسي معقّد في لبنان والمنطقة.
إرث المختارة والمسؤولية الثقيلة
منذ اللحظة التي وجد فيها نفسه زعيمًا على أنقاض اغتيال والده كمال جنبلاط، وقف وليد جنبلاط وجهًا لوجه مع قاتل أبيه، فوق دمٍ لم يجف، ليؤسس لمسيرة سياسية تراوحت بين الثبات على المبادئ والمرونة في التحالفات. كان دائمًا يقف على الحافة، ينظر إلى الهاوية دون أن يسقط، محافظًا على التوازن في لحظات التحوّلات الكبرى.
جنبلاط ليس قديسًا، وهو يعترف بذلك. لكنه يتحرك بخطوات محسوبة، وأحيانًا مفاجئة، بهدف حماية مصلحة وطنية كبرى تتجاوز الحسابات الشخصية أو الطائفية.
زيارته إلى دمشق: صفحة جديدة من التاريخ
في زيارته الأخيرة إلى دمشق، بعد سقوط نظام الأسد، دخل جنبلاط قصر الشعب متحررًا من إرث الضغوطات الماضية. لقاءه بـ أحمد الشرع، الرئيس الجديد لسوريا، لم يكن مجرد حدث سياسي، بل محطة رمزية في سياق تاريخي طويل. جنبلاط الذي لطالما قرأ التاريخ كدليل إرشاد، أهدى الشرع كتاب “تاريخ ابن خلدون”، في إشارة إلى أهمية التوازن بين القوة والحكمة، وإلى ضرورة تفادي أخطاء الماضي.
جنبلاط، الذي حمل جراح الماضي، عاد إلى دمشق ليس كمنكسر، بل كفاتح يحمل وردةً حمراء وجرحًا مفتوحًا. رسالته كانت واضحة: الدماء التي سالت ستبقى شاهدًا، لكن المصالحة الوطنية الحقيقية يجب أن تكون قائمة على العدالة والاحترام المتبادل.
رجل الواقعية والبرغماتية
في السياسة، يُنتقد جنبلاط أحيانًا لتغيير مواقفه بما يتماشى مع الظروف. لكن هذه المرونة هي التي جعلته قادرًا على النجاة والاستمرار. من دعوته إلى تطبيق القرار 1559 وإطلاق سراح سمير جعجع قبل اغتيال الحريري، إلى مواقفه خلال الثورة السورية، كان دائمًا يتخذ قرارات تعكس قراءة عميقة للواقع.
اليوم، بعد زيارته لدمشق، يبدو أن جنبلاط يعيد صياغة رؤيته، ملتزمًا بمبدأ العدالة كأساس للمصالحة. تأكيده على إبقاء المعتقلات السورية متاحف لتذكير الأجيال بالمآسي، يعكس رغبة في بناء مستقبل لا يكرر أخطاء الماضي.
الزعيم العابر للحدود
وليد جنبلاط ليس مجرد زعيم طائفي، بل هو صوت عابر للحدود. تحدّى النظام السوري في عزّ جبروته، ودافع عن قضية فلسطين عندما تخلّى عنها كثيرون، وحمل راية الثورة السورية عندما خفتت أصوات الدعم الدولي. هذه المسيرة جعلته شاهدًا على انهيار أنظمة وصعود أخرى، وأحد أبرز اللاعبين في كتابة تاريخ المنطقة.
جنبلاط، رجل البرغماتية وشاهد التحولات الكبرى، يقدّم نفسه اليوم كسياسي يحمل إرثًا من التحديات والإنجازات. مسيرته لم تكن يومًا سهلة، لكنها دائمًا كانت شاهدة على شجاعة استثنائية ومرونة غير عادية. في زمن التحولات الجذرية، يظل وليد جنبلاط قارئًا للتاريخ، لاعبًا في الحاضر، ومخططًا للمستقبل، حيث الأوطان تبقى عالية، والهامات لا تنحني.