حين فرغت من قراءة كتاب الصحافي والروائي الأستاذ عزت صافي "طريق المختارة ،"وطويت ضفتيه، حضرتني على الفور قصيدة الشاعر الأمريكي روبرت فروست Robert Frost، بعنوان "الطريق التي لم أسلكها "The Road not taken، التي كتبها حين حطّ به الزمان في أرض خريفة، قائلا أنه لما كان في مقتبل العمر كان عليه أن يختار بين طريقين، فسلك واحدة وترك الأخرى. ويتساءل فروست في نهاية القصيدة "ماذا لو سلكت الطريق الأخرى؟."
ولو قدُِرَ للأستاذ عزت أن يطرح على نفسه هذا السؤال بعدما اختار طريق المختارة، لأجاب بكليته، وبثقة واعتزاز، "كنت سأختار طريق المختارة من جديد وأترك الأخرى"، لأن بوصلة العمر تشير إلى قبلتها، إلى كنف المعلم كمال جنبلاط. وهو القائل في الصفحات الأولى من الكتاب: "لم تكن لي حياة، ولا مقام، ولا عمل، ولا عطلة إلا في إطار الحزب ومكتب الأنباء."
"طريق المختارة" هو كناية عن سرد تاريخي لأحداث مرحلة من تاريخ لبنان المعاصر تتزامن ومراحل حياة المعلم الشهيد كمال جنبلاط منذ دخوله الندوة البرلمانية عام 1943 حتى استشهاده عام 1977.
يعتمد الكاتب الفن الروائي في طريقة سرده للأحداث، فتتداخل سيرة كمال جنبلاط Biography وسيرة الكاتب الذاتية autobiography، فيمسك الرواي بزمام الكلام، يفتح الدفاتر القديمة، يكشف أسراراً وخفايا، يغوص في التفاصيل الدقيقة بموضوعية وشفافية، مبيناً كيف شكّل المعلم الرقم الصعب في موالاته ومعارضته، وكيف كان المحرك الأساس في مجريات الأمور الوطنية والعربية.
يعرف الكاتب عن نفسه بالقول: "أنا صحافي". أما قارئ الكتاب فيكتشف أن الأستاذ الصحافي هو أيضاً روائي وأديب، وقامة وطنية وفكرية سمت خلقاً، ومعرفة ونضالاً. إستل يراعه كالسيف القاطع، مدافعاً عن الحرية والديمقراطية والعدالة كما استلهمها من مبادئ المعلم. ملأ دواته من مداد القلب، فكان صادقاً فيما كتب، قبلته الحقيقة، وطريقه الصراط المستقيم، طريق المختارة التي سلكها طوعاً وعن ايمان ويقين.
لم يغص الكاتب في شرح فكر ومبادئ المعلم، بل واكب تطبيق هذا الفكر على أرض الواقع وفي الإطار السياسي – الإجتماعي، والوطني، والقومي، والعالمي، وفلسطين منه نقطة الدائرة.
بعد عرض تاريخي موجز لتاريخ آل جنبلاط وزعامتهم المتجذرة في تاريخ لبنان السياسي والإجتماعي، ينعطف الكاتب ليواكب حياة المعلم على الصعيد الخاص، وعلى الصعيد العام. فيتحول إلى شاهد عيان يروي تفاصيل عالم جنبلاط الخاص، وسيرة متقشف صوفي مترفع عن الشيئية، هائم في عالم الروحانيات. يرافق صافي المعلم في خلوته في "ظهر الشكارى"، ويواكب عاداته اليومية ،بدءاً بتواضع المكان والأثاث، إلى المشرب والمأكل البسيط من خيرات الطبيعة، منبهراً بسلوك المعلم المتواضع، وبجمال الطبيعة التي لم يشأ جنبلاط يوماً أن يقطع حبل صرته ليخرج من رحمها.
ثم يتابع طقوس جنبلاط اليومية: "مع الفجر رائحة بخور وشمعة وصلاة، ثم قراءة في كتاب روحي، ثم خلوة مع روح معلمه في التأمل". ويلخص الأستاذ عزت صفات المعلم بالقول:
"ومن صفاته البساطة، والزهد من غير حاجة، والتواضع، والقناعة، والصدق، واللطف ،والكبر، والإكتفاء بالقليل مما عنده منه الكثير". وما كان يتحمل "الكذب، والخداع، والرياء، والتحايل والجشع."
أما على الصعيد العام، فيصف الكاتب المعلم بالقول: "هو زعيم إستثنائي بزعامته، وعلمه ،وفكره، وثقافته، وفلسفته، وشخصيته القيادية، وحين حاول تطبيق نظرية غاندي الذي تعلم منه "جمال التسوية"، لقي مصير غاندي."
ويضيف: "أن شخصية جنبلاط تقوم على أفانيم ثلاثة: هو فيلسوف من عقل أثينا، وحكيم من روح الهند، وقائد من بسالة سبارطة."
ولكن وحسب قول كمال جنبلاط: "أن الذي يسبق بأفكاره التاريخ، ليس له في أكثر الأحيان إلا المقصلة". ويضيف صافي معلقاً على كلام جنبلاط، "أن جنبلاط الزعيم الإستثنائي الذي سبق بأفكاره تاريخ العالم العربي المتركد، واجه وحيداً، ليس فقط المقصلة، أنما المؤامرة التي اغتالت الوطن باغتياله."
ثم يقلب الكاتب صوراً من الماضي تضيء على إنجازات جنبلاط السياسية والإجتماعية، ويتحول هو بدوره إلى شاهد عيان يواكب الأحداث التي كان جنبلاط محركها الأساس. فقد بدأ جنبلاط مسيرته السياسية بعد وفاة صهره حكمت جنبلاط في العام 1943. وفي أول خطاب له في الندوة البرلمانية حدد المعلم خطه السياسي: وهو مقارعة مخلفات الإنتداب، والسير في ركب العروبة .
فخاطب زملاءه النواب قائلاً:
"أن الاستقلال يبدأ بالتخلص من قيود الانتداب في الدستور والقوانين. وأن العروبة هي وحدها التي تكفل لهذه البلاد الوحدة الوطنية والقومية، وتصوب الإستقلال."
وقد اكتشف جنبلاط باكراً علة النظام الكامنة في الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية، فنادى بالتزام مبدأ النزاهة والإستقامة في الحكم والإدارة. وقد أدرك مبكراً أيضاً علة النظام الطائفي، فدعا إلى اعتماد نظام العلمنة، وإلغاء الطائفية من الرئاسات الثلاث، والوزارة، والنيابة، والوظائف الإدارية، مشدداً على أن العلمنة لا تعني القطيعة مع الدين، والأخلاق، والمبادئ الروحية التي تشكل الروح بالنسبة للجسد"، وطالب "بالخبز والعمل للجميع."
وقبل تأسيسه للحزب التقدمي الإشتراكي، كان جنبلاط النائب والوزير الشاب محط أنظار الجميع، فخاض حوارات سياسية وفلسفية مع عدد من المفكرين والسياسيين، خاصة مع أنطون سعاده الذي حاول أن يستقطبه إلى الحزب القومي الاجتماعي السوري. وبعد إعدام سعاده واعتراض جنبلاط على "هذه الجريمة المدبرة والمشينة دون محاكمة عادلة"، كما يقول، صرح عبدالله قبرصي في حديث صحافي للأستاذ عزت، أن الحزب، قد طرح على جنبلاط فكرة ترأس الحزب القومي بعد سعادة ،لكن جنبلاط لم يكن مستعداً لذلك: وقد طلب الشيخ بيار الجميل أيضاً من جنبلاط أن يترأس حزب الكتائب وذلك للخروج بالمأزق اللبناني من الطائفية، ولكن جنبلاط لم يتجاوب وطلب الشيخ بيار أيضا.
وبعدما تبوأ المعلم وزارتي الإقتصاد والزراعة بين عامي 1946-1947، أصبح بالنسبة للجميع نصيراً للفقراء وعدواً للفساد بعدما حارب التهريب والتزوير، وصادر القمح المهرب ووزعه على الفقراء. ويروي الأستاذ عزت أن وفد اً من زغرتا جاء إلى المختارة برفقة أحد الكهنة الذي خاطب جنبلاط قائلاً: "يا كمال بيك، في بعض بيوت إخواننا الموجودين هنا من أهل زغرتا، توجد صورة لك إلى جانب صورة العذراء وسط الشموع."
بدأت ثورة جنبلاط ضد الفساد والمفسدين بعدما حلَّ الرئيس بشارة الخوري مجلس النواب عام 1947، وأجرى أنتخابات مزورة لتجديد ولايته، وبعدما تحول لبنان إلى "مزرعة بأمرة أخيه سليم الذي لقب "بالسلطان سليم"، واستأثرت "الكتلة الدستورية" بكافة الوظائف، وساد الفساد والمحسوبيات، والسرقة والنهب لمؤسسات الدولة. فطرح جنبلاط حينها مشروع "من أين لك هذا؟"، ودعا إلى إنشاء محكمة خاصة للنظر في قضايا الثراء غير المشروع، ومراقبة مداخيل كبار الموظفين .رفض الرئيس بشارة هذا المشروع الذي عاود جنبلاط طرحه على الرؤساء كميل شمعون، وفؤاد شهاب، وشارل حلو، وسليمان فرنجية، لكنه بقي رهينة عند المستفيدين من الساسة ،ولم يفرج عنه حتى الساعة.
عام 1949، أسس المعلم "الحزب التقدمي الإشتراكي" مع نخبة فكرية ووطنية تنتمي إلى كافة أطياف الوطن وعلى امتداد ترابه. وكان من اللافت أن الدروز المنتسبين إلى الحزب كانوا الأقل عدداً. وقد وصفت "جريدة واشنطن" الحدث بالقول: "مما يدعو إإلى التقدير والإعجاب، أن كمال جنبلاط العريق في إقطاعية عائلته، هو أول من خرج عليها، ويؤلف حزباً لمحاربتها ويدعو الشعب للإنعتاق من شرورها."
ويذكر الأستاذ عزت أنه كان بين الأوائل الذين انتسبوا إلى الحزب بعد أيام من تأسيسه، وأقسم اليمين على يد المعلم في المختارة، وكان رقم بطاقته 75.
عام 1951، رفعت المعارضة وعلى رأسها كمال جنبلاط "وثيقة شرف" تضمنت البنود التالية: "الضمان الصحي، مجانية وإلزامية التعليم الإبتدائي، بناء مساكن للعمال والفلاحين، وضمان الحريات العامة، والحرية الحزبية، وحرية الرأي، وتحديد ساعات العمل بسبع ساعات، وتقسيم الملكيات الكبرى". فكانت الوثيقة بمثابة دستور إشتراكي للبنان.
عام 1952، حصلت المواجهات بين المعارضة وقوى الأمن وسقط الشهداء، تشكلت على أثرها "الجبهة الإشتراكية الوطنية" التي رفعت شعار: "الإصلاح، والديمقراطية، والحرية، والعدالة ."وفي مهرجان دير القمر، وجه جنبلاط نداءه الشهير للرئيس بشارة الخوري جاء فيه:
"أنني أتوجه إليك الآن، يا فخامة الرئيس، بإسم الفلاحين، وبإسم العمال، وبإسم الصناعيين ،والمزارعين والمنتجين ... وبإسم كل لبناني ... المسلم والنصراني، وبإسم لبنان ... أناشدك أن تصلح أو تعتزل."
وقد تضمن الخطاب مقولة جنبلاط الشهيرة: "جاء بهم الأجنبي، فليذهب بهم الشعب". وماان انتهى المؤتمر حتى عمت الإضرابات كافة المدن والمناطق، مما أدى في 15 أيلول 1952 "إلى الحدث التاريخي الديمقراطي الأول في لبنان والعالم العربي، وهو تنحية الرئيس بشارة الخوري نزولاً عند رغبة الشعب"، كما يقول عزت صافي. خاطب كميل شمعون جنبلاط قائلاً: "مبروك حضرة الرئيس"، فأجابه المعلم: "أنا الرئيس بالقول، وغيري سيكون صاحب الفخامة"، وذلك لأن الميثاق الوطني غير المكتوب يحصر رئاسة الجمهورية بطائفة معينة.
بعد وصول الرئيس شمعون إلى سدة الرئاسة، ونكثه لمطالب "الجبهة الإشتراكية الوطنية "التي كان أحد أعضائها، تفاقم الوضع بين المعارضة والرئيس شمعون خاصة قبل انتخابات عام 1953. فاتهمت السلطة جنبلاط بأنه يسعى لتغيير نظام الحكم في لبنان كي يصبح هو رئيساً للجمهورية، خاصة بعدما نقل عنه ما قاله أمام الأمير سعود بن عبدالعزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية: "بالأمس قلنا لرجل زُلْ، فزال، وقلنا لآخر كنْ، فكان".
ويتابع الكاتب مسيرة جنبلاط السياسية، وانتقاله إلى مواقع عربية متقدمة، خاصة بعد ثورة
23 يوليو 1952 في مصر وانبعاث الحلم العربي بالوحدة في عهد الرئيس عبدالناصر. فملأت مقالاته الصحف والمجلات، مدافعاً عن حركات التحرر العربية والإنتفاضات في الجزائر، وتونس والمغرب، داعياً إلى "قيام اتحاد عربي ديمقراطي فدرالي لامركزي، مع المحافظة على الخصائص الوطنية لكل شعب، والإلتزام بمبدأ تحرير فلسطين كأساس لهذه الوحدة"، واصفاً اسرائيل "أنها الإثم العبراني المتحول إلى صهيونية جامحة قائمة على استيطانهم لأرض بلاد كنعان، وإقامتهم دولة عنصرية طائفية، واستيلائهم على عاصمة التلاقي بين محمد والناصري في القدس المطهرة."
وفي ظل تنامي فكرة الوحدة العربية، حاول جنبلاط أن يعادل بين اللبنانية والعروبة. وبعد العدوان الثلاثي على مصر والدعوة إلى قطع العلاقات مع فرنسا وبريطانيا التي لم يستجب لها الرئيس شمعون، ازداد الوضع توتراً بين "دعاة اللبنانية" و"دعاة العروبة". وخوفاً على وحدة اللبنانيين، دعا جنبلاط البطريرك المعوشي لعقد لقاء مسيحي – مسلم في بكركي لحماية السلم الأهلي والوحدة الوطنية، فاستجاب البطريرك لهذه الدعوة وتمَّ الإجتماع في بكركي، ثم لاحقاً في دار الفتوى.
عمد الرئيس شمعون إلى التخلص من المعارضة، فعدّل قانون الانتخابات الذي أدى إلى سقوط لائحة جنبلاط في الشوف وعاليه، وسقوط صائب سلام وعبدالله اليافي في بيروت عام 1957. وحاول الرئيس شمعون الإنضمام إلى أحلاف معادية للوحدة العربية، وخاصة إلى مشروع "مبدأ أيزنهاور "الذي يهدف إلى التصدي للتغلغل السوفياتي في المنطقة الداعم لحركات التحرر العربية، وفتح المجال لفرض السيطرة الأمريكية على المنطقة العربية. وعشية بدء الإتصالات لقيام الوحدة السورية المصرية، أخذ الرئيس شمعون يعد العدة للتجديد وللتصدي لهذه الوحدة باعتبارها تهديداً للكيان اللبناني، وبدأ بإصدار مذكرات توقيف بحق نواب المعارضة ومن بينهم كمال جنبلاط الذي حوصر في منزل بشاره الدهان في صوفر. تدخل قائد الجيش فؤاد شهاب داعياً شمعون إلى عدم التعرض لجنبلاط قائلاً: "أن دار المختارة مثل بكركي، ومش لزوم قلك مين كمال جنبلاط، ما تنسا تاريخنا حضرة الرئيس."
وبعد إعلان قيام "الجمهورية العربية المتحدة" بين مصر وسوريا في شباط 1958، بدأت حملة المطالبة بالتجديد للرئيس شمعون بدعم من بريطانيا وأمريكا، وذلك لضمان سياسة الأحلاف المعادية للوحدة العربية الهادفة إلى تطويق إسرائيل، واسترداد فلسطين.
ومع أن جنبلاط لم يكن متحمساً للإنضمام إلى الوحدة إلى أن تعم الحرية والديمقراطية والإشتراكية والعلمانية الدول العربية، إلا أنه كان أكبر المؤيدين لقيامها. فزار دمشق حيث ألقى كلمة مهنئاً بالوحدة، جاء فيها: "جدد أيها القائد الكبير )عبدالناصر( حلم الأجيال الغابرة ... وليكن فيك عدل عمر، وسطوة صلاح الدين، ... لقيام مدنيةّ متجددة تقدمية جمعت ما في الإسلام الأصيل من سماح، وأبرز ما في المسيحية من عدالة وأخوة ومحبة."
بعد أسابيع من قيام الوحدة، تحول لبنان إلى ساحة صراع بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والإتحاد السوفياتي وحلفائه من جهة أخرى وبدأت التحالفات بين السلطة والأحزاب المناهضة للعروبة، لمواجهة الأحزاب الداعمة للعروبة والوحدة، بينما دعا جنبلاط "إلى نظام علماني، حضاري ،وكيان لبناني على قاعدة اللبنانية والعروبة."
بدأت معركة التجديد للرئيس شمعون باغتيال صاحب "جريدة التلغراف " نسيب المتني في 8 أيار 1958، والذي شكل الشرارة الأولى لإندلاع ثورة 1958. إتهم جنبلاط السلطة باغتيال صديقه المتني الذي كان يناهض الأحلاف والتجديد للرئيس، فدعا إلى العصيان المدني، الذي تحول إلى ثورة عمت كافة أرجاء لبنان ضد التجديد للرئيس شمعون وضم لبنان إلى معاهدة "مبدأ أيزنهاور". خاطب جنبلاط الجماهير المتحمسة للثورة قائلاً: "سنقاتل دفاع اً عن لبنان الذي نريده حراً مستقلاً، ولحماية عروبته ضد محاولات عزله وربطه بأحلاف عسكرية وللحفاظ على وحدة اللبنانيين حتى نكون جبهةواحدة ضد الفساد والتعصب والتفرقة". ثم وجه رسالة مطمئنة إلى المسيحيين قائلاً:
"رئاسة الجمهورية ستبقى دائماً من حق الموارنة، والثورة هي حركة شعبية ديمقراطية وطنية حرة في سبيل سيادة لبنان واستقلاله وكرامة شعبه."
احتدم القتال بين المعارضة والسلطة، وعمت معظم المناطق اللبنانية التي انتهت بإعلان شمعون مغادرة القصر الجمهوري في 23 أيلول 1958. وللحد من تدهور الأوضاع، اتفقت أمريكا وفرنسا وبالتوافق مع عبدالناصر، ومباركة البطريرك المعوشي وجنبلاط على اسم الجنرال فؤاد شهاب ليكون رئيساً للجمهورية على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، التي وصفها جنبلاط بأنها قيام "قائمقامية النصارى، وقائمقامية الإسلام"، تعود بلبنان إلى نظام 1864، قائلاً:
"أن النظام اللبناني حوّل المذاهب إلى أحزاب سياسية، لا تشعر بوحدة الوطن، ووحدة العيش والمصير، ويكاد لبنان أن يكون إتحاداً فدرالياً لطوائفه أكثر من دولة بالمعنى السليم والصحيح".
شكل العهد الشهابي مرحلة نهوض وعمران ومأسسة للدولة اللبنانية، ومناخاً مؤاتياً لجنبلاط لمحاربة الفساد وإطلاق التغيير الديمقراطي. ويروي الأستاذ صافي، الذي كان مقرباً من المعلم والرئيس شهاب، أنه في أحد لقاءات جنبلاط والرئيس، قال جنبلاط ومن باب محاربة الفساد: "إبدأ بهؤلاء الحرامية". فأجابه الرئيس قائلاً: "علينا أن نبدأ أولاً ببناء سجون تتسع لضيوفنا"، واصفاً من يتعيشون من السياسة بـ "أكلة الجبنة."
توافق جنبلاط وشهاب على الخطط الإصلاحية وأنماء المناطق النائية المحرومة من الخدمات، وعلى بناء دولة المؤسسات. فتمَّ إنشاء مجلس الخدمة المدنية، وهيئة التفتيش المركزي، وديوان المحاسبة، ومجلس تنفيذ المشاريع الكبرى، ومجلس التخطيط الإنمائي والإجتماعي ،والصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، والبنك المركزي، والرقابة على المصارف، ومجلس القضاء الأعلى، ومجلس شورى الدولة، والمشروع الأخضر، وشبكات المياه والكهرباء، والطرق، والمدارس والمستوصفات.
وعلى الرغم من الإنجازات الكبيرة التي شهدها العهد الشهابي، إلا أن جنبلاط بقي متوجساً من العسكرة، ودور الجيش وتدخله في الشؤون الداخلية، خوفاً على الديمقراطية والحرية والعدالة. فبعد محاولة الإنقلاب التي قام بها الحزب القومي ليلة رأس السنة 1961-1962، وما نتج عنها من اعتقالات وزج في السجون دون محاكمات، وقف جنبلاط ضد هذه الإجراءات التعسفية التي طالتالأبرياء، وقال للرئيس شهاب: "كل هذا الذي جرى يجب ألا يجعل الدولة تفقد عقلها، وتلغي قوانينها ،وتعطل دستورها، وتتصرف كعشيرة كبيرة مقابل عشيرة صغيرة". وحذر الرئيس من "الطبقة السياسية الفاسدة التي تحاول استدراج الجيش إلى التدخل في الألعاب القذرة."
كان جنبلاط من المؤيدين للتجديد للرئيس شهاب، "كي ينجز ما بدأه من إصلاحات لا طائفية ،وتطهير الدولة من جميع الفاسدين والمفسدين، ومن الموظفين الطائفيين في تفكيرهم ونهجهم"، مشدداً على "إلغاء الطائفية السياسية في التمثيل النيابي، وتطبيق اللامركزية الإدارية"، وتطبيق قانون "من أين لك هذا؟."
لكن الرئيس شهاب أصر على عدم التجديد، فكانت الرئاسة من نصيب الرئيس شارل الحلو الذي شهد عهده انطلاق الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 1966. فارتفع صوت اليمين اللبناني للتصدي للمد الفلسطيني وحماية الجنوب، بينما احتضن جنبلاط القضية الفلسطينية ،ودعا إلى "تدريب الجنوبيين للدفاع عن أرضهم، وأن يكون الجيش في مقدمة الأهالي للدفاع عن الوطن، وفتح باب التطوع، وتشكيل حرص وطني لحماية الجنوب". ومن حرصه على الجنوب وأمنه وسلامه، كان يحذر قائلاً:
"إن الجنوب اللبناني يشكل أخطر نقاط الصراع العربي – الإسرائيلي، ويجب على الدول التي تنادي بالسلام والعدل والحرية أن تدعم لبنان."
يتابع الصحافي الراوي سرده للأحداث التاريخية التي كان للمعلم الرأي الوازن، والدور الأساس في مجرياتها. وجاءت هزيمة حزيران 1967 المدوية، فألقى جنبلاط "مسؤولية الهزيمة على الأنظمة العربية، وحمّل الحكام العرب مسؤولية الإنكسار نتيجة الممارسات الديكتاتورية، والقهر والتفرقة واستغلال الثروات العربية لمصلحة الأنظمة". أصبح جنبلاط رجل الساعة إلى جانب عبدالناصر، وأخذ يستنهض الهمم لدعم دول الطوق لمواجهة اسرائيل، قائلاً: "أن ساحة الحرب مفتوحة، وعلينا أن نثق بحتمية الحرب". خاطب عبدالناصر جنبلاط قائلاً: "أنت مؤتمن على لبنان، خاصة بعد نشوء حركة المقاومة". ولم يكن عبدالناصر ليفرط بلبنان، فينقل الكاتب ما قاله عبدالناصر للرئيس شارل الحلو: "أرجوكم إنتبهوا للبنان الجنوبي، أنا أقدر أن أحرر مصر من إحتلال سيناء ،لكني لا أستطيع أن أقاتل من أجل تحرير جنوبي لبنان، أرجوكم لا تستفزوا، ولا تعرضوا لبنان لأينكسة أو ضربة."
بعد النكسة، تغيرّ موقف الرئيس حلو تجاه القضية الفلسطينية، وأعلن: "أن للدولة منطق، وللثورة منطق، ومنطق الدولة لا يتطابق ومبدأ الثورة"، وهذا ما جعل الأحزاب اليمينية اللبنانية تلتف حوله، فأبصر "الحلف الثلاثي" النور قبل انتخابات 1968 بين الكتائب، والأحرار، والكتلة الوطنية .
وأعلن رؤساء هذا الحلف "أن لا فائدة بعد الآن من اعتماد اللبنانيين على العرب، بل من مصلحتهم التخلص من العروبة والناصرية خصوصاً"، والتصدي للعمل الفدائي من لبنان.
أصبح الجو الطائفي ينذر بالكارثة، واشتدت المواجهات بين الجيش والفلسطينيين، فبدأت أحزاب الحلف الثلاثي، بإستثناء حزب الكتلة الوطنية، بفتح المخيمات للتدريب على السلاح، والظهور علناً بالسلاح. وفي المقابل بدأت القوى اليسارية تتدرب هي الأخرى على السلاح بدعم من المقاومة الفلسطينية.
تفاقم الوضع الأمني وازداد سوءاً بين الجيش والمقاومة الفلسطينية، ما أدى إلى عقد "إتفاق القاهرة" برعاية عبدالناصر وموافقة الرئيس شارل الحلو، والذي نتج عنه تنظيم العلاقة اللبنانية – الفلسطينية، والسماح للمقاومة الفلسطينية بإقامة قواعد عسكرية لها في الجنوب، وممارسة العمل السياسي والأمني داخل المخيمات.
ومن موقعه كوزير للداخلية، حاول جنبلاط ضبط الممارسات الفلسطينية الإستفزازية التي تتعارض وهيبة الدولة. فطالب بإزالة الحواجز، ومنع اللباس العسكري، والتدريب بعيداً عن الأماكن السكنية. وقدم اقتراحاً لمجلس الوزراء بمنع إطلاق الصواريخ من لبنان، محذراً من نوايا إسرائيل العدوانية، محاولاً بذلك الحفاظ على عروبته ولبنانيته في آن.
أتت الانتخابات الرئاسية عام 1970 بسليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، فتغيرت الظروف وتبدلت، خاصة بعدما قاد حافظ الأسد انقلاباً في سوريا بإسم "الحركة التصحيحية"، وسهل دخول الفلسطينيين الموالين لسوريا إلى لبنان تحت مرأى صديقه الرئيس فرنجية. فتحول لبنان إلى ساحة مفتوحة على كافة الإحتمالات، ووقع في المحظور. حاول جنبلاط أن يلعب دور صمام الأمان ،وطالب فرنجية بعدم إقحام الجيش في المعارك ضد الفلسطينيين.
بعد حرب 1973، بقي لبنان وجنوبه الجبهة العربية الوحيدة المفتوحة ضد إسرائيل .
وأصبحت بيروت مركز قيادة ياسر عرفات الذي تمادى في التدخل بالشؤون اللبنانية بقوة السلاح، ما أدى إلى التصادم بين الفلسطينيين والأحزاب المسيحية، وإلى انفجار الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975. حذر جنبلاط من الإنزلاق إلى الحرب، ودعا إلى الخلاص عن طريق "ثورة سياسية إجتماعية على أساس "البرنامج المرحلي للحركة الوطنية."
إزداد الوضع الأمني تفاقماً، وبدأت المذابح، والتصفيات، والقتل على الهوية. وانقسمت بيروت إلى شرقية وغربية، واتجه المسيحيون إلى مشروع تقسيمي أو فدرالي. أمر الرئيس فرنجية الجيش بدعم القوى المسيحية ومدها بالذخيرة والسلاح، فتشرذم الجيش وانقسم.
في ذلك الحين كانت القوى الوطنية تواصل تقدمها ميدانياً، ووصلت إلى مشارف القصر الجمهوري، وإلى مشارف عينطورة. حاول جنبلاط إجتراح الحلول مطالباً فرنجية بالإستقالة، لكنه رفض وغادر القصر الجمهوري إلى ذوق مصبح.
وتزامناً مع هذه الأحداث الدموية، بدأت سوريا تخطط لدخول لبنان بموافقة عربية، ودولية ،وإسرائيلية. قصد جنبلاط سوريا في آذار 1976 وقابل الرئيس حافظ الأسد علهّ يجد مخرجاً للمأزق اللبناني. إقترح على الرئيس الأسد أن تحسم القوى الوطنية المعركة والدخول بالتسوية على قاعدة إلغاء الطائفية السياسية، وتكريس عروبة لبنان، وإرساء مبادئ الديمقراطية والحرية. رفض الأسد اقتراح التسوية هذا لأن مصالحه في دخول لبنان إلتقت ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تهدف إلى إنهاء المقاومة الفلسطينية، ومحاصرة القوى اليسارية وعلى رأسها جنبلاط، وضمان أمن إسرائيل على قاعدة إقامة سلم في الجولان.
بدأت سوريا الضغط على عرفات لقطع علاقته مع جنبلاط، ومنع إعطاء السلاح للحركة الوطنية، فاختار عرفات سوريا وتخلى عن جنبلاط. أصبحت سوريا وصية على لبنان بمباركة أمريكية، بعدما زارها وفد كتائبي مطالباً الأسد بالدخول إلى لبنان لحماية المسيحيين. ولما دخلت الدبابات السورية إلى لبنان، سار الجميع باتجاهها، ومن بينهم "أبوعمار". وحده جنبلاط رفض هذا الدخول، مدعوماً من ريمون أده الذي دعا إلى الكفاح المسلح ضد السوريين. تحولت بيروت الغربية إلى "دولة فلسطينية"، بعدما خلت بيروت الشرقية من الفلسطينيين ومخيماتهم.
قام جنبلاط بمحاولة أخيرة لتجنيب لبنان الهيمنة السورية وسيطرتها عسكرياً على لبنان، فزارمعظم الدول العربية وفرنسا، طالباً الوقوف في وجه الإحتلال السوري للبنان، لكن جهوده كلها ذهبت أدراج الريح، فتخلى الجميع عن مشروع جنبلاط مقابل تنفيذ الصفقة المبرمة مع أمريكا. ونفذت المؤامرة، وأسدلت الستارة على مشروع جنبلاط الإصلاحي، واغتالته يد الغدر صباح السادس عشر من آذار ،1977 "ليتحول إلى رمز للحرية، والديمقراطية، والوطنية، ومحاربة الفساد، والمساواة ،واللبنانية الصادقة، والعروبة الديمقراطية، رافضاً أن يدخل لبنان أي حلف عربي، كي لا يدخل السجن العربي الكبير"، كما يختم الأستاذ عزت صافي.
وهكذا رحل المعلم شهيداً، بعدما قدم نفسه طوعاً قرباناً على مذبح الوطن الذي أراده حراً، ديمقراطياً وعلمانياً.. وانسجاماً مع قول الفيلسوف الفرنسي مان دي بيران الذي كان يردده دوماً:
"إذا أنت وهبت كل ما تملك، وادخرت حياتك، كأنك لم تعط شيئاً، عليك أن تقدم كل ذاتك أولاً أو لا تعط شيئاً".