تاريخ لا يمحوه الزمان!
02 كانون الثاني 2025
12:02
Article Content
هذه الصورة أخذت بتاريخ 24 حزيران سنة 1975، أي بعد أقل من شهرين على وقوع ما سمي بمجزرة عين الرمانة التي حصلت قبل وبعد الظهر يوم الأحد الثالث عشر من شهر نيسان سنة 1975.
كان اللقاء الأول بين الأمام موسى الصدر والمعلم كمال جنبلاط، قال لي السيد حسين الحسيني الذي كان عهد ذاك رئيساً لحركة أمل، حدّق بكل من الرجلين الكبيرين طويلاً في عيني جليسه ومحاوره وكأن كلا منهما كان يهدف الى "سبر أغوار" شخصية الآخر وحسن نواياه. ولم تمضِ دقائق حتى اكتشف المحاوران أنّ أحدهما كان أقرب إلى الآخر مما كان يظن ويعتقد..
كان الإمام الصدر قبل ذلك الموعد بفترة قد ألقى محاضرة في كنيسة القديس فرنسيس الأسيزي (أول شارع الحمراء). كان ذلك على ما اذكره يوم جمعة. توجهت الى الكنيسة سيراً على الأقدام، والتقيت هناك عدداً لا بأس به من الرفاق والأصدقاء الذين جاؤوا لمتابعة محاضرة الإمام. تقدم مني الصديق العزيز كامل العبدالله وقال لي: إمامٌ ويحاضر في كنيسة! فقلت: ولِمَ لا؟ إنه إمام مميز ومن قماشة خاصة...
وصل الإمام الصدر فاستقبله الجمهور الحاضر بالتصفيق. وحاضر الإمام فحلّق وأبدع... وانتقل بالجمهور إلى أجواء روحية ووطنية ولا أسمى ولا أرفع. دعا إلى التمسك بلبنان "الوطن الرسالة" وشدد على وجوب دخول اللبنانيين في حوار معمق ومحب يصل بهم في نهاية المطاف إلى قيام دولة القانون والمؤسسات التي يعيش فيها اللبنانيون مواطنيين متساوين في الحقوق والواجبات.
وعن اللقاء الحواري والتعارفي بين الرجلين الكبيرين قال لي المعلم كمال جنبلاط، اليوم ومن خلال الحوار الذي أجريناه بدا لي اننا نعرف واحدنا الآخر منذ زمن بعيد. لقد اتفقنا على أن الدفاع عن الوطن والشعب هو مسؤولية الدولة وليس مسؤولية طائفة أو منطقة معينة وان الحوار كان ويبقى هو سبيل اللبنانيين الى معالجة قضاياهم الأساسية والمحورية. وتوافقنا على أن الأطماع الصهيونية في لبنان وفي أرض لبنان مؤكدة ومعروفة. وان اسرائيل لا تحب لبنان لأنه وطن تعايش ومحبة وحوار بين الأديان السماوية وهي كيان عنصري "تلمودي" ينظر الى الآخرين نظرة استعلاء وحقد وان لبنان يبقى في النهاية هو المثال، وان قضية فلسطين كما قضية القدس هما في البال. وان حق الشعب الفلسطيني في وطنه ودولته هو حتى الموت.
وروى كمال جنبلاط للإمام الصدر ما حصل في الثالث عشر من شهر نيسان في محلة عين الرمانة. كان اليوم يوم أحد وكان ثمة احتفال قبل الظهر لافتتاح كنيسة مار مارون بحضور رئيس الكتائب الشيخ بيار الجميل ومرّت سيارة من أمام الكنيسة وأطلق من في داخلها النار فسقط أربعة قتلى كان من بينهم المرافق الخاص للشيخ بيار الجميل جوزف أبو عاصي، كما سقط عشرة جرحى من بينهم أربعة في حال حرجة.
وعند الساعة الثالثة من بعد الظهر مرت "بوسطة" من داخل عين الرمانة كانت تقل حوالي 30 راكباً من الفلسطنيين المتجهين من مخيمي صبرا وشاتيلا إلى مخيم تل الزعتر أعلى بلدة الدكوانة... فاطلق مسلحون النار على ركاب الحافلة فوقع 27 قتيلاً وبضعة جرحى.
مساء يوم الأحد عقدت الحركة الوطنية برئاسة كمال جنبلاط حضرها رئيس الحكومة رشيد الصلح لاتخاذ موقف مما حصل. قال لي أمين عام الحركة الوطنية المناضل محسن ابراهيم شدد الرئيس كمال جنبلاط في بداية الاجتماع على وجوب عدم التسرع في اتخاذ أي قرار وعلى وجوب انتظار يومين على الأقل للإحاطة بحقيقة ما حصل لكن "زعيق" أبو أياد الذي حضر الاجتماع نيابة عن ياسر عرفات المتواجد في تونس وإصرار ممثلي نظام حافظ الأسد على وجوب اتخاذ قرار فوري وطرح الموضوع على التصويت جعلت رئيس الجلسة المعلم كمال جنبلاط يطرح الموضوع على التصويت فاتخذ قرار بوجوب عزل حزب الكتائب واستقالة أو إقالة وزرائه من الحكومة.
وختم أمين عام الحركة الوطنية محسن ابراهيم كلامه بالقول: كان هذا ما حصل وقد ترك استياء كبيراً لدى الرئيس جنبلاط الذي قال: ان ما حصل خطير ومقلق وهو يشير الى ان قرار الحركة الوطنية بات في أيد غير مسؤولة وان الأمور قد تدحرجت بشكل غير متوقع... وانه يجب التفكير بإعادة النظر بهيكلية الحركة الوطنية لأن الذي حصل يؤكد أن نظام الأسد وبعض المنظمات الفلسطينية تتحرك في اتجاه تفجير الأوضاع الأمنية في لبنان تماما كما تخطط اسرائيل وتشتهي.
أما على الصعيد الرسمي فقد أقدمت الشعبة الثانية في الجيش بقيادة العقيد جول بستاني على اعتقال ستة شبان تواجدوا في مكان حادثة عين الرمانة ووضعهم في سجن وزارة الدفاع (تحت الأرض) وفي اليوم التالي تولى العقيد بستاني التحقيق معهم فتبين أن ليس بينهم أي واحد ينتمي الى حزب الكتائب. وعندما تعمق المسؤول الأمني أكثر في الاستجوابات فأكد له ان الموقوفين الستة لا ينتمون إلى حزب الوطنيين الأحرار أيضا بل الى حلقة خاصة تابعة للسيد داني شمعون شخصيا وهذا يطرح الكثير من علامات الاستفهام.
شدد الامام الصدر على وجوب معالجة الأمور بالكثير من الحكمة والوعي وان اللجوء الى السلاح في وطن التعايش الأخوي كلبنان يمكن ان يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. ووافاه المعلم كمال جنبلاط في منتصف الطريق واتفق الرجلان الكبيران على المزيد من التلاقي والتنسيق والتشاور المستمر.
لماذا نكتب ما نكتب اليوم بالذات!
لنؤكد على أن ما عشناه في سنوات الحرب والفتنة كان في معظمه ليس عمل "اسرائيل" وحسب بل أن نظام حافظ الأسد العنصري والمجرم كان وراء معظم ما حصل. وكان بهدف ان يبتلع نظام الأسد لبنان ويضع يده عليه وان يصادر القرار الوطني كما القرار الوطني الفلسطيني لينفذ مؤامراته الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية والى التحكم بمقدرات لبنان وشعبه تنفيذا لمخطاته التحكمية التوسعية المنكرة..
لقد تم اغتيال المعلم كمال جنبلاط بطريقة وحشية على يد نظام حافظ الاسد المجرم.. وتم تغيب الامام موسى الصدر على يد نظام معمر القذافي المجرم الموتور...
وبعد عقود وعقود نكتشف إننا ما زلنا نعيش في عالم ليس عقلاً ولا قيماً ولا حريات خاصة أو عامة بل ان حقوق الانسان في عالم غريب عجيب يأتي رئيس أكبر دولة في العالم الى وطن المقدسات ليؤكد انه صهيوني وليد كيان الحقد والاجرام بالمال والسلاح المدمر الفتاك وليرتكب أكبر مجزرة في تاريخ الانسانية: الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة فيقتل الأطفال والأمهات والشيوخ الأبرياء ويجوع شعبا باكمله ليفنيه ويذله...
كما ما فعل خلال الشهرين المنصرمين في حربه المجرمة ضد لبنان شعبًا وأرضاً ومقدسات فاغتال وقتل القادة كما الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء... والعالم ساكت بل ومؤيد وسهّل احيانا لكل ما يجري...
إننا نتبرأ من هذا العالم بل وندينه على كا ما جرى ويجري... ونأمل أن يكون العام الجديد عام سلام ومحبة فينهض لبنان من كبوته ويعود وطن الحرف والكلمة وطن الحرية والاحرار فنعيش في ظلاله إخوة متحابين متضامنين كما اراد كمل جنبلاط وكما أراد الامام موسى الصدر فلهما كل تقدير ومحبة وعرفان جميل ومبارك للشعب السوري الحرية والعزة.
شتّان ما بين الذئب والأسد!
وتزعمُ أنك أسدٌ
شتّان ما بين الذئب والأسدِ.
هذا البيت من الشعر هو من قصيدة نظمها المناضل العربي السوري شبلي العيسمي ووجهه الى الطاغية حافظ الأسد ولقد قام نظام بشار الاسد باختطاف شبلي العيسمي من عاليه حيث كان في ضيافة كريمته. اختطفوه وهو في الواحدة والثمانين من عمره، واختفت آثاره.. وقضي شهيداً.