عراب لبنان: وليد جنبلاط
21 ديسمبر 2024
13:57
آخر تحديث:21 ديسمبر 202413:57
Article Content
حينما مالت الدنيا، اشتدت العواصف، وانهارت الجسور بين اللبنانيين، ظل هناك رجل لم يملّ، بل بقي ثابتًا كصخرة في بحر متلاطم. كان وليد جنبلاط، ذلك الرجل الذي سار بخطى راسخة، عينه ثاقبة، وقلبه مشغولٌ بالهمّ اللبناني، لا يطغى عليه الزمن ولا تتلاعب به الأهواء. كان يعرف أن لبنان في حاجة إلى من يظل واقفًا على حافة الهاوية، دون أن يسقط.
سار جنبلاط في حقل ألغام القضايا اللبنانية، بين تفرّق أبناء الوطن، وتشرذم الطوائف، ومطالب السياسة الداخلية التي لا تنتهي. وبذل من جهده ما استطاع لتجنب انزلاق هذا البلد إلى حرب أهلية أخرى. كان يسعى بحكمة لا يملكها سوى من مرّ بتجارب الحياة القاسية إلى الحفاظ على توازن داخلي صعب، موازنًا بين مصالح هذه الطائفة وتلك، بين أولويات هذا الحزب ومطامح ذاك. كان يضع نصب عينيه تلك الوحدة الوطنية المفقودة، ويسعى لترميمها، وإن كانت القطع التي يشملها الترميم تملك جروحًا عميقة لا يمكن للزمن أن يلتئمها بسهولة. لكنه آمن أن لا خيار أمام لبنان إلا أن يبقى موحدًا، ولا مجال أمامه إلا أن يتقدم برغم التحديات.
ومن جبلٍ شامخ في لبنان، ومن قلعةٍ راسخة أطلقت منها أصداء التاريخ، انطلق وليد جنبلاط برسالة جمعٍ، ساعيًا إلى بناء جسور الحوار والتفاهم بين اللبنانيين، داعيًا إلى نبذ الخلافات التي طالما كانت سببا في أزمات متجددة. كانت رسالته دائمًا هي تعزيز الدولة اللبنانية، وتقوية بنيانها، وترسيخ الاتفاقات التي حفظت للبنان وحدته في أحلك فترات التاريخ. كانت هذه المساعي جزءًا من حلمه في بناء وطن مستقر، يظل صامدًا رغم كل المآسي التي مرّ بها.
وفي طريقه، ظل ملتزمًا بالثوابت اللبنانية التي تمثل هوية هذا البلد الفريدة في تنوعه، ثابتًا على مبادئه في الحفاظ على سيادة لبنان على كامل أراضيه. ومن حدود الـ10452 كم²، التي لطالما كانت رمزًا للوجود اللبناني في خضم الأحداث الدولية، كان يحمي هذا الوطن بتمسكه بالأرض والدستور، حريصًا على أن يبقى لبنان مفتوحًا أمام الجميع، متمسكًا بعقيدته الوطنية التي تؤمن بالعيش المشترك.
ولم يكن جنبلاط يومًا بعيدًا عن هموم اهله، حيث كان يحمل في قلبه القلق العميق على مصير أبناء طائفته وحزبه، وعيناه على جيرانه في سوريا الذين كانوا عرضة لتداعيات الأزمة الإقليمية. كان حريصًا على ألا تجرّهم العواصف السياسية إلى مستنقع الفوضى، محاولًا الحفاظ على الهوية اللبنانية لكل طائفة وجماعة، وحريصًا على أن تبقى كل المناطق اللبنانية، بما فيها الجبل، بعيدة عن التورط في النزاعات الطائفية والمذهبية التي لطالما عانى منها الشرق الأوسط.
وفي ساحات المواجهة السياسية، كان جنبلاط محاربًا من نوع خاص، محاربًا في ميدان الكلام، والفكر، والمبدأ. كان ينتظر خصومه في ساحة السياسة بكل شرف، مؤمنًا بأن الحق لا يموت، وأنه سيبقى ساطعًا رغم الظلم، رغم الطغاة، رغم الجراح التي قد لا تلتئم في الزمن القريب. كان يعلم جيدًا أن كل معركة سياسية خاسرة في لحظة، هي بداية لفرصة جديدة لبناء الحق، وأنه في النهاية، لا شيء يقهر الحقيقة، مهما حاول البعض أن يطغى أو يظلم.
من قصر المختارة، ذلك المعقل الذي شكل شاهدًا على تطورات لبنان عبر العصور، كان جنبلاط يشرف على مشهد لبنان السياسي كما يشرف الفنان على لوحته. كان يلون هذا المشهد بألوان الوطنية، بتراب لبنان، معتمدًا على وحدة الشعب اللبناني رغم تبايناته. كانت تلك الرؤية هي الدليل على أنه رغم كل المحن، ورغم كل العقبات التي تعترض مسيرتنا الوطنية، فإن لبنان واحد، وسيظل كما هو، عنوانًا للعروبة، والمقاومة، والتعددية.
اليوم، يبقى وليد جنبلاط كما كان: رجل السياسة والفكر، صاحب الرؤية الوطنية العميقة، مثالاً للثبات في وجه الرياح العاتية. المؤمن بلبنان الوطن الذي يتشارك فيه الجميع، الساعي إلى تحسين أوضاعه وإعادة بناء ما هدمته الحروب والأنانية، لتظل تلك الرؤية أملًا في قلبه، رغم جميع التحديات التي مرّ بها.
وليد جنبلاط يبقى الثابت الذي لا ينحني، الرجل الذي لم تمل به الدنيا مستمر في مسيرته نحو وطن أفضل، نحو المستقبل المتقدم رغم كل الصعاب.