طواحين الشرق
14 ديسمبر 2024
18:08
Article Content
تتمتع منطقة الشرق الأوسط بميزات كثيرة، منها الطبيعية والجغرافية ومنها الديموغرافية وغيرها مما يجعلها نقطة التقاء معظم دول العالم ومحط اهتمامها وتركيزها. ونتيجة لهذا الموقع نرى التولُّد الدائم للنزاعات فيها. فأزماتها كثيرة ومتشعبة الأبعاد، وأسبابها متعدّدة، منها الدينية ومنها الاثنية ومنها الجغرافية ومشكلة الحدود، وخلاف التاريخ وكتابته، والخوف من الديموغرافية وتغيُّراتها، دون ان ننسى غناها بالثروات الطبيعية وحاجة الاقتصادات العالمية لها.
قديماً بُنيت الطواحين على مجاري الأنهر لتحرك رحاها الثقيلة، مستقبلة حبات القمح المباركة لتحيلها دقيقاً، ولتعطي الفلاحين قوتاً يسدُّ جوعهم. اما طواحين شرقنا المريض فبنيت على مجاري انهار دم شعوبه الغارقة في فقرها وجهلها وقلة الحيلة. وللأمانة أقول انها لم تعش منطقة في العالم القتل والدمار والتهجير، كما عاش ويعيش شرقنا القابع في سواد وأتون الحروب التي لا تنتهي، ووسط الفوضى والتشتت والصراعات الدائمة.
المشرق العربي أو الشرق الاوسط أو الشرق الأدنى، وكلها مصطلحات اعتمدت على تفسيرات وفلسفات ومصالح واضعيها، من دول مستعمرة وطامعة، تدور طواحينه على روافد الحدود الجغرافية والسكانية، وتتنوع بين ضحلة الإنتاج وبين وافرة العطاء والمحصول، وتاتي في مقدمتها طاحونة فلسطين، وهي أخطرها وأكثرها عشقاً للضحايا وغزارة للدماء، ولم تهدأ منذ حوالي ثمانية عقود، وقد طغى هديرها الصهيوني المجرم العاشق للدماء على كل الطواحين.
فيما الطاحونة السورية هدأت فترة وجيزة، في أوائل السبعينات لتتحول، على يد "بول بوت سوريا"، (حافظ الأسد) الى طاحونة قهر وكبت حريات وقتل فكر، وسجنٍ وتعذيب، وإعدامات لم يشهدها التاريخ الحديث. وقد تجددّ عملها في العام 2011 على يد الإبن البار(بشّار الأسد)، مجازراً واعدامات ميدانية ينأى لها الجبين، تاركةً ملايين السوريين نازحين ولاجئين في أصقاع الأرض، ومحوِّلة المجتمع السوري مذاهب تتصارع على دولة اصبحت دويلات، وقد أُحيلَ قسمٌ منها الى ارضٍ من الركام والجثث.
ويماثلها الطاحونة العراقيّة (صدّام حسين) باساليبها الوحشية، ومع انهما إعتنقا مبادئ البعث نفسها، الا ان فرّقتهما المصالح الفردية والانانيات وحب الزعامة ولوثة السلطة، ولم يكن النظام العراقي بأحسن من أخيه السوري بحق شعبه، وقد خاض مغامراتٍ ارتدّت عليه وعلى شعبه وأرضه بالوبال، ومع فرح الكثيرين بذهاب الطاغية والدكتاتور، الا ان النتيجة اتت عكس التمني، واصبحنا نترحم على الماضي، فاطلّت الطائقية برأسها البغيض انتقاماً ومجازراً وتفتيتاً، وما زال العراق يتخبط بالدماء والنار، وينخره الفساد والتعصُّب.
طاحونة لبنان تُجدِّد نشاطها كل عقد او عقدين وتتبادل الضحايا مع الطاحونة الفلسطينية منذ النكبة، ومع السورية منذ العام 2011 ومع العراقية واليمنية وحتى الليبية.
والمفارقة الكبرى ان تلك الطواحين ملكيتها للخارج الأجنبي، ويتناوب عليها المستعمر والمستبد تحقيقاً لمصالحه. أما شعوب شرقنا المقهور، فهي وقودٌ لها وحطبٌ يُضرم، ولم تجنِ منها اية فوائد على مرّ الازمان. فالاطماع في مشرقنا قديمة، من المغول الى الصليبيين الى المماليك ومن ثم العثمانيين (حالياً تركيا) الى الاستعمار الغربي وخاصة الفرنسي والبريطاني وما خلّفاه من تقسيم وتفتيت، الى عصر أميركا الذي ما زال مستمراً ويتنقل بين الطواحين يضبطها ويُسعِّرها متى أراد وكيفما شاء، تأجيجاً او تخفيفاً، وهو اليوم الناظم الرئيسي، يوزّع الضحايا فيما بينها ويحصد الأرباح والغلال، غير مبالٍ بمصير الدول وأرواح شعوبها.
الى متى سنبقى قمحاً يُطحَن؟ ونحن بغالبيتنا "زؤان" أسود، قست قلوبنا واعتاد نظرنا على مشاهدة الدماء والجثث، وهذا الأخطر، فاعمتنا عصبياتنا الدينيّة والإثنيّة والمذهبيّة وحبُّ السلطة، وكبَّلَنا الجهل والتخلف الفكري والإنحطاط الأخلاقي.
أما آن الأوان ان نعود الى زمن طحن الحنطة، الى مطاحن الخير والبركة، زمن المحبة والتسامح، زمن الإستقرار والرخاء والعيش بسلام؟