مأساة السودان عالِقة في شِباك العِناد
08 ديسمبر 2024
08:20
Article Content
أعلنت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومنظمة اليونيسيف التي تُعنى برعاية الطفولة في العالم؛ أن مأساة السودانيين الإنسانية فاقت كل تصوُّر، فعدد المُهددين بالجوع يتجاوز 25 مليون شخص، بينما عدد النازحين وصل الى 11 مليون منهم 3,5 مليون هربوا الى الدول المجاورة، وهناك أكثر من 3,7 مليون طفل معرَّضين للإصابة بسوء التغذية، ويعاني كل السودانيين البالغ عددهم 50 مليون نسمة من أزمة اقتصادية خانقة، كل ذلك بسبب الحرب الطاحنة التي اندلعت منذ منتصف نيسان/ابريل 2023 بين الحليفين اللدودين السابقين؛ رئيس المجلس السيادي الانتقالي الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه "قائد قوات الدعم السريع" والفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) وهؤلاء انقلبوا سوياً على الحكومة المدنية برئاسة عبدالله حمدوك، والتي تمَّ تشكيلها بناء على تسوية داخلية بعد خلع الرئيس السابق عمر البشير من جراء انتفاضة شعبية في العام 2019.
يتبادل أطراف النزاع الاتهامات حول المسؤولية عن القصف الذي تتعرَّض له مخيمات الفاشر شمال دارفور، لاسيما مخيم زمزم، لأن الأعمال العسكرية أدت الى حصول مجازر بحق المدنيين في المخيم، ومنعت وصول المواد الغذائية والطبية اليه. ويبدو أن المدنيين والنازحين وقود لمعركة تهدف للأستيلاء على شمال دافور، التي يعتبرها دقلو معقلاً رئيسياً له، وهو بالفعل يسيطر على ثلاثة من أربعة ولايات يتكون منها الإقليم، كما يسيطر على جنوب كارفان وعلى ولاية الجزيرة الهامة وسط البلاد. بينما تغلب سيطرة الجيش بقيادة البرهان على المناطق الشرقية. اما العاصمة الخرطوم فما زالت ساحة قتال شبه دائم بين الفريقين.
لا يمكن تجاهل الأسباب الداخلية وربما الشخصية التي تقف وراء اندلاع القتال بين حليفي الأمس وأعداء اليوم، ومن أبرز هذه الأسباب محاولات البرهان تقويض سلطة " قوات الدعم السريع" التي تعتبر نفسها تعمل بموجب قانون خاص، ومحاولة دقلو توسيع منسوب نفوذه في البلاد، لا سيما على المناطق التي تتجمع فيها ثروات الذهب والنفط، وفيها استثمارات خارجية هامة، وهو يستفيد من العلاقة مع الشركات المستثمرة، ويجني مدخولاً مالية لا يستهان به.
لكن الأحداث تطورت وأخذت أبعاد أكثر خطورة، بعد أن دخلت القوى الخارجية المعنية، او التي لها مصالح في السودان وتطمح بتوسيع نفوذها في القارة السمراء؛ عاملاً مؤثراً في الصراع، كما أن طرفي النزاع حاولا استقطاب تأييد حلفاء خارجيين، والقارة الأفريقية مُهيأة لتكون ساحة لتنامي التجاذبات الإقليمية والدولية، والسودان مكاناً مثالياً لهذا التنافس، نظراً لموقعها الاستراتيجي الذي يطل على البحر الأحمر من الشرق، ويتصل مع أهم دول وسط افريقيا من الغرب ومن الجنوب، كما أنها ممراً لنهر النيل الذي يعتبر من أهم أنهار العالم، وتعتمد عليه السودان ومصر كمصدر أساسي لمياه الشرب والري ولتوليد الطاقة، ولا يمكن للبلدين الإستغناء عن هذا المصدر اطلاقاً.
الاتحاد الأفريقي كما الدول ذات النفوذ في المنطقة؛ حاولوا عدة مرات تسوية النزاع بالطرق السلمية، فواجهوا عناداً قاسياً من الفريقين، ولم يفلحوا حتى الآن. ومجلس الأمن الدولي أصدر عدة قرارات وتوصيات تدعوا لوقف إطلاق النار، ولحماية المدنيين، لكنه لم يتمكن من إيقاف الإقتتال ايضاً. والدول المحيطة، كما الدول البعيدة ذات التأثير في افريقيا، تجنُّبت اعلان مواقف تنحاز فيها الى جانب طرف ضد طرف آخر، رغم وجود مصالح لبعض هذه الدول مع هذا الفريق او ذاك. لكن كل ذلك لم ينفع في تجنيب حرب السودان مهالك التجاذبات الخارجية، الى أن وقعت المأساة في شباك الصراعات الإقليمية والدولية، لا سيما منها التنافس الحاصل في القرن الإفريقي والسباق على الهيمنة على القارة بين الدول الكبرى الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وإسرائيل ليست بعيدة عن مسرح التحريض.
فمصر الجارة العربية الأقرب للسودان، يهمها البقاء على علاقة تنسيق مع الخرطوم لحماية انسياب مياه النيل المُهددة من الجار الاثيوبي كونه بلد المنبع لأهم روافد النهر. والحراك الخارجي للفريق دقلو؛ شمل زيارة أديسا بابا، وقد أثار بذلك المشاعر المصرية التي تتنافس مع اثيوبيا في أكثر من ملف، ومصر أسست لحلف مع الصومال وارتيريا لمواجهة الطموحات الإثيوبية، وقد استقبلت القاهرة الفريق البرهان، وارسلت وزير الخارجية بدر عبد العاطي الى بورتسودان للإجتماع معه، كونه يمثل الشرعية في السودان، وهو الموقف الذي تتبناه مجموعة كبيرة من الدول، ومنها الولايات المتحدة الأميركية، رغم معارضة هذه الدول للإنقلاب الذي نفذه البرهان ضد حكومة حمدوك عام 2021. بينما تجهد دول أخرى على احتضان الفريق دقلو، وقد استقبله رؤوساء أوغندا وكينيا وجيبوتي واثيوبيا بحفاوة لافتة. بينما روسيا والصين اللذين اعترضا على مشروع القرار البريطاني في مجلس الأمن، وهو يدعوا لوقف فوري لإطلاق النار؛ لا يخفيان تواصلهما مع دقلو بحجة وجود استثمارات كبيرة للبلدين في مناطق نفوذه.
مأساة السودانيين تتفاقم، والحرب غير المُبرَّرة مستمرة، والطرفان المتنازعان يعاندان في مواجهة مساعي التسوية، وقد اقفلا أبواب الحوار. اما الصراعات الدولية الساخنة فقد حظيت بساحة خصبة لتصفية الحسابات.