نجح لبنان في تجاوز واحدة من أشد الأزمات الداخلية التي مرّ بها. وانعقدت جلسة مصالحة ضمت الرؤساء الثلاثة إضافة إلى الزعيمين طلال أرسلان ووليد جنبلاط، طوت صفحة استغلال حادثة البساتين التي أعقبت تجمّعاً للأهالي في ساحة قبرشمون لاعتراضهم على زيارة رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية جبران باسيل إلى المنطقة، وذلك بعد تبدّد كل الطروح التي كانت تقضي بإزاحة التأثير الجنبلاطي عن انتخابات الرئاسة اللبنانية المُقبلة بعد ثلاث سنوات.
معركة سياسية وقضائية وأمنية اشتركت فيها كل أطراف المعادلة اللبنانية، واكتسبت أبعاداً إقليمية ودولية، انتهت إلى فشل في تغيير التوازنات التقليدية الثابتة في جبل لبنان، والتي كان بدأ الاشتغال على تغييرها مع قانون الانتخابات الأخير.
آل الإفراط في توظيف حادثة البساتين واستغلالها في التهيئة لانتخاب الوزير جبران باسيل خلفاً للرئيس الحالي ميشال عون، إلى رد فعل عكسي واصطفاف داخلي في الطائفة الدرزية أعاد تثبيت القاعدة الجنبلاطية بشكل قوي، وامتد تأثير هذا الاصطفاف ليشمل القاعدة السنية وليساهم في استنهاض قواعد قوى "14 آذار" كلها، بما أعاد تصويب المعادلة في الساحة اللبنانية.
وعلى رغم الجلبة التي استمرت لأكثر من شهر، تجاوز جنبلاط كل المظاهر المصطنعة لمحاصرته وتحجيمه. والمعلوم أن الترتيب الداخلي الذي يعم في البيئة الدرزية قلّما يستسيغ الثنائيات الداخلية في لحظات الخطر الحقيقي، خاصة إذا ظهرت الدوافع الخارجية لاصطناعها واستخدامها بشكل فاقع. بالتوازي، فإن هذا التحريك للسوسيولوجيا العميقة في جبل لبنان، إنما يعكس ذاته في لحظات مفصلية وتأسيسية في التاريخ اللبناني. كتلك التي عبّرت عن نفسها لحظة استشهاد الرئيس رفيق الحريري وصولاً إلى محطة 14 آذار وما تلاها.
بالمعنى العام، يمكن تحميل الجولة التي شهدها لبنان أخيراً كل تعقيدات الأزمة اللبنانية وتراكماتها التاريخية التي طافت على السطح مرة واحدة، ويمكن إضافة النزوع الفاقع لحسم هوية لبنان في الصراع الإقليمي والذي ظهر بعد تعويم نظام الرئيس السوري بشار الأسد والسعي لترجمة ذلك على الصعيد اللبناني.
إلغاء التنوّع الذي كان يستهدف مُلوّنات الفريق السيادي والاستقلالي اللبناني كان بادياً، وهو الذي وضع الرئيس نبيه بري والدكتور سمير جعجع والرئيس سعد الحريري إلى جانب وليد جنبلاط في موقف واحد يتطلّع إلى ما جرى من منظور حروب الإلغاء وتصفية الحسابات وتغيير التوازن السياسي في لبنان.
وفي حين بدا التماسك استثنائياً على هذه الجبهة، ظهر التشتت بالأجندات على ضفة خصومها، إذ استعاد الوزير باسيل نبش جذور الخلافات الدرزية المسيحية التي تعود إلى العام 1860 وما قبل، وعاد ميشال عون إلى أيام الحرب اللبنانية ومحاولات صعوده إلى الجبل في عام 1983، فيما حدّد حزب الله مشكلته مع وليد جنبلاط بالخلاف حول المقاربة الإقليمية وبواجب الوقوف إلى جانب حلفائه في مهمة إضعافه وصولاً لإعادة مَوضَعَة جنبلاط وجلبه إلى بيت الطاعة.
في المقابل، تمثّل الإنجاز الأهم الذي حمى لبنان من الانزلاق إلى صراع كبير، في منع استدراج قيادة الجيش إلى مواجهة مع الأهالي، دفع إليها المحيطون بالرئيس ميشال عون، الذين أصروا على المقاربة الأمنية في التعاطي مع حادثة البساتين. ونجا الجيش من "كمين" كان يُحضّر لإغراقه في صراع أهلي، ولحرق ورقة قائده كمرشح مُنافس لجبران باسيل في انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة.
ونجت المصالحة بين الدروز والمسيحيين في الجبل من التخريب بعدما استُثمِرت الحادثة للتشكيك بالتعايش القائم، ونجح حلفاء جنبلاط المسيحيين، وهو في حمايتها من الانزلاق إلى صراع ماروني درزي بعد توصيف الحادثة بأنها كانت تستهدف باسيل وهو رئيس أكبر تكتل مسيحي.
يُجمع حلفاء الوزير جبران باسيل، كما خصومه، على أن مجمل حركته وجولاته في المناطق، إنما يدخلان في صلب حملته للوصول إلى رئاسة الجمهورية خلفاً لعمّه. وقدّم عدد من أركان البلد النصائح للرئيس ميشال عون بأن من المبكر أن تعيش البلاد على وقع هذا الطموح لباسيل الذي يساهم في توتير الأجواء السياسية.
لكن محاولة تحسين الشروط الانتخابية بطريقة مُبكرة، لم تأتِ لصالح باسيل. فالرئيس عون يدخل إلى النصف الثاني من عهده على رجل واحدة، في حال استغنى عن ركيزة الحالة التي تحلّقت حول نفسها خلال الأزمة ومَثّلها الثلاثي بري جعجع والحريري إلى جانب جنبلاط، إضافة إلى الحالة الأهلية والشعبية التي واكبتها.
وبالمضمون العام، فإن مصالحة بعبدا جرت فعلياً بين ميشال عون ووليد جنبلاط، وعلى خلفية تغيّر في موقف "حزب الله" الذي شرع في البحث عن إعادة وصل ما انقطع مع جنبلاط بعد ملامسة الأزمة حدوداً تنعكس على العلاقة بين الدروز والشيعة.
فعلياً، انتهى لقاء المصالحة في قصر بعبدا إلى رسم توازنات مُحَدّثة بعد انتخابات العام 2018، وأسّس لمسار سياسي ينعكس على ولاية ميشال عون الرئاسية، وما يليها. وتأتي الرمزية للاصطدام بالزعامة الجنبلاطية لتعزز هذا المنحى، فالعهود الرئاسية لمرحلة ما بعد الاستقلال وحتى الدخول السوري إلى لبنان في عام 1976، كانت تمر حكماً عبر بوابة تلك الزعامة. ولاحقاً، أيام الوصاية، ظَلّ موقفها من العهد مؤشراً للحكم عليه بالفشل أو النجاح، وصولاً إلى معركة التمديد لإميل لحود في عام 2004 التي فتحت باب الانتهاء من الوصاية السورية عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
والأهم أن الوجهة التي حدّدها المسار الإقليمي، أو المحور، وجماعته في لبنان والتي سارت في اتجاه فرض قانون انتخابات يقلب التوازن المُعتاد في السلطة التشريعية، أخذت تتطلع إلى عهد ميشال عون باعتباره يرأس مرحلة انتقالية، وكأن وظيفته التوطئة للعهد الذي يليه. هذا التفكير حكم جملة من التسويات التي وضعت عون في الرئاسة وأخذت تتطلّع إلى ما بعده منذ اليوم الأول.
وبهذا المعنى، أتت "عامية" قبرشمون لتضع حداً للجموح، الداخلي والخارجي، نحو تطبيع الحالة اللبنانية وخصوصيتها في التوجه الشمولي العام الآخذ في مصادرة التنوع في المنطقة. ولا شك في أن ما بعد هذه العاميّة، وما استتبعها من التسليم بالوقائع المجتمعية الثابتة والإقرار باستحالة تجاوزها، لن يكون كما قبلها.