عندما الأرض تروي وتُروى وجعاً
23 نوفمبر 2024
18:12
Article Content
هي الأرضُ تروي سيادةً إحدى أقاليم الدولة، بنضالٍ عنفواني أحد أقاليم عزة الشعب، تروي عن سابق تصور وتصميم صموداً باللغة العربية الفصحى بإملاء قواعدها وبلاغتها لإرساء المغزى وإيصال الفكرة من لبنان الى كل العالم، وأيضاً على الطريقة الوطنية أو اللهجة الدارجة " هيدي الأرض إلنا".
هي الأرض تستفيض كلاماً، ويصبح إنسيابياً حين يكون الوطن في مرمى العدوان، ليتحد التوصيف بين الجميع بأنه وحشي بلا رحمةٍ وبلا إنسانيةٍ، في المدارس تُدرس الحروب في الكتب ويكون التخاطب باللغة الفصحى، لكن في مدرسة الحياة " الحكي مش متل الشوفي"، فلن تشتمل الكتب تفاصيل الدمار الحجري والبشري، كما يعيشها ويعايشها الإنسان بنفسه على أرض الواقع مباشرة، فجمادُ الورقِ لن يحسَّ بإرتجاجِ الأرض ولن يتنشّقَ الدخان وأضراره الصحية الجسيمة بعد كل غارةٍ، ومهما كان الشرح دقيقاً لن يشتم رائحة الموت ولن يسمع أنين طفل ولن يشعرَ بالآلامِ ولا بفاجعة أمٍّ أو " كسرة ضهر" أبٍ، عذاباتٌ تصرخ " هيدي الأرض إلنا".
هي الأرض تستغيث خلاصاً إخلاصاً لبقائها، فعندما الحزن يلامس الوجدان ويدق بالقلب، يصبح الكلام بلقاءٍ تعاضدي بغير موعدٍ بنص القلب يحكي عن مآسي عمر بسلاسة التلقائية لا الإنتقائية في إختيار المفردات، عما يخبّيه من حنان وحنين وشكوى وحرقة بين الوريد والوريد، قلبٌ يروي وجع وطنٍ عمره سنوات، ينبضُ " هيدي الأرض إلنا".
هي الأرض تنطق بحالِ شعبٍ، بغصّة ودمعة، بصوتٍ مجروح، فعندما تتجّول في المناطق والضيع ستقابل ضيافة إبن هذه الأرض الجبّارة، يشاركك معاناته وخسارته يعزمك إلى بيته أو مطرح ما كان بيته قبل هدمه الكلي بالقصف، سيعيد لك رسم هندسته المعمارية، يقول يعزّ على نفسي أن غرف أولادي اختفت واختفت معها طفولتهم وأغراضهم وألعابهم، والأصح أنه استضافنا بقلبه، وعزمنا على جرحه ووجعه لا إلى منزله الإفتراضي، وحجار هذا البيت تخبّر ذكرياته بروحٍ متألمة ومتأملة دائماً "هيدي الأرض إلنا".
هي الأرض تكبَرُ بكبارها، ويطول الحديث بحكمة فلاح ختيار، عيونه غارقة بالرجاء وكتيفه من الهم " محنيي"، يخبرك عن هذا العدو المستجد، بالعربي الجار قبل الدار، وبالعبري الجار يريد أن يحتل الدار، واحد وثمانون عام على الاستقلال، وما زال مجرد نقشاً على صخرة الجلاء، لم نلحظ ولم نحظَ بالإستقلال الحقيقي بين إجتياحٍ وإحتلالٍ وحروب، لم يكن يوماً كاملاً بوجود أراضٍ محتلة وسيادة تخترق يومياً، لقد خاض هذا الوطن حروباً عدة لكن ليس كهذا العدوان، جرف حجر وإبادة بشر، " كرمال" عين سكان الشمال تخرب مرجعيون وبيروت والبقاع... وكل لبنان، ولأنه بلا تاريخ، يعمد لمحو إرثنا وتراثنا وتاريخنا وحضاراتنا، ويحرق أرزاقنا، هنا كان بيتي وجنينتي وكرم الزيتون، كله راح، شقى وجنى عمري، إذا مسكت التراب تلاقي آثار إيدينا فيه، ويحكي عن حق أهل الأرض وتعبهم " هيدي الأرض إلنا".
هي الأرض تروي وتُروى وجعاً من هذا العدو المستجد المستبد، والأهم إذا كان الحجر يُفدى بالحجر فالأهمية للترميم النفسي، وكيف الغد سيتجاوز الألم وكيف سيرسم الأمل، وأنّ مهما استبدّ وقتل وهدم وهجّر وهوّل، فلكل ظالمٍ عقاب، ولكل محكمة عدالتها وسيرمى بسهام عدلها، ومهما جرف الأرض وإخترقها بعشرات الأمتار فأعماق أعماق التراب لنا، والأفقةأمامنا ولنا، ومهما حلّق في سمائنا لا بد أن يُجرف بسحابة الصيف هذه العابرة، هذا الشعب غرسة في هذا التراب، أغصانها تشمخ نحو السماء تصدح والسماء لنا تصلي ربي إحمِ هذا الوطن "هيدي الأرض إلنا".