مع استمرار النزاع العسكري بين حزب الله والعدو الاسرائيلي، يشهد لبنان موجة نزوح داخلي غير مسبوقة ومتسارعة، حيث اضطر أكثر من مليون ونصف مليون لبناني الى ترك منازلهم بحثاً عن الأمان في مراكز الإيواء المنتشرة في مناطق مختلفة من البلاد. ورغم شدة الأزمة وتداعياتها النفسية والاجتماعية، أثبت اللبنانيون مراراً وقدرتهم الفريدة على تحويل الصعاب إلى فرص؛ فهم لا يستسلمون بسهولة، بل يواجهون العقبات بعزيمة ويستثمرون كل ما هو متاح لتخفيف آثارها وتقديم دعم ملموس للمتضررين.
في مقابل ذلك، فان قدرة اللبنانيين على التأقلم مع الأزمات وتحويلها إلى لحظات تعلم ونمو ليست مجرد فعل عابر، بل هي تجسيد لروح متأصلة في مجتمعهم، فهم يظهرون دائماً شجاعة وإبداعاً في استثمار أوقات الأزمات وتطوير حلول مبتكرة لدعم الصمود. تجعل هذه الحلول من الأعمال الترفيهية والتعليمية في مراكز الاستضافة نافذة أمل قادرة على احداث فرق ملموس في حياة النازحين، لا سيما الأطفال الذين يعانون بشدة من الصدمات الناتجة من النزوح.
أهمية تنوع الأنشطة في أماكن الاستضافة
في سياق متصل، تشير الدراسات النفسية إلى أن الانخراط في أنشطة متنوعة يلعب دوراً حيوياً في دعم الصحة النفسية للنازحين، خاصة في ظل الظروف القاسية التي يواجهونها. اذ يسهم تنفيذ أنماط تعليمية، ترفيهية، وثقافية للأطفال والنساء في التخفيف من وطأة التوتر والضغوط النفسية، ويمنح المهجرين مساحة للتعبير عن مشاعرهم والتواصل مع الآخرين. هذه البرامج ليست مجرد ترفيه، بل تُعد وسيلة علاجية تعزز من قدرة الأفراد على التواؤم، وتمنحهم إحساساً بالأمل والثبات في ظل غياب الاستقرار.
إنسانية المبادرات الفردية: عطاء دون مقابل
من جهتها، تقول نسرين شمص، مؤسسة جمعية "Recreate"، في تصريح لـ "الديار": "منذ بداية الأزمة، بدأنا بتنفيذ أنشطة "الاتيليه المتنقل" في المدارس والمراكز، بهدف نشر ثقافة الوعي البيئي والفني من خلال إعادة التدوير للأطفال والنساء. وندعوهم للاستفادة من الموارد البشرية والطبيعية التي يتميز بها لبنان، كما نركز على الحلول المستدامة في مواجهة الأزمات".
وتوضح أن "هذه التحركات لا تهدف فقط إلى تخفيف الضغط النفسي، بل تسعى أيضاً الى تزويد النساء بمهارات عملية قد تمكنهن من تحقيق دخل مستقبلي عبر العمل في مجال إعادة تدوير الأقمشة".
وللأطفال حصة الأسد!
من جانبها، تسلط رئيسة الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان، أميرة سكر، الضوء على جانب آخر من الأنشطة التي تُنفذ في مراكز الإيواء، مؤكدة أهمية حماية الأطفال وتقديم الرعاية الشاملة لهم. وتقول لـ "الديار": "نقوم بتنظيم أنشطة ترفيهية تساعد الأطفال على تفريغ طاقاتهم وتخفيف الضغط النفسي الذي يعيشونه بسبب النزوح. بالإضافة إلى ذلك، نرصد أي انتهاكات تمس حماية الطفل ونتدخل قضائياً عند الضرورة. كما يقدم فريقنا خدمات أساسية تشمل الطعام والملابس والأدوية ومواد التنظيف والرعاية الطبية".
وتشدد على "أهمية التعاون مع شبكة واسعة من المنظمات والجمعيات لتلبية احتياجات النازحين، مما يشير إلى ضرورة تكاتف الجهود من اجل التصدي للصعوبات المتزايدة".
استصلاح المواد جزء رئيسي من الأنشطة
لا شك ان تضمين إعادة التصنيع في فعاليات مراكز الإيواء لا يساعد فقط في تعليم النازحين مهارات جديدة، بل يساهم أيضاً في تعزيز الوعي البيئي، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية التي يرزح تحت شدتها لبنان. من خلال ورشات العمل في إعادة تكرار الأقمشة، يتعلم الأطفال والنساء أساليب بسيطة للاستفادة من المواد المستعملة، ويكتسبون كيفية تحويلها إلى قطع مفيدة ذات قيمة اقتصادية. وبهذا، لا يقتصر النشاط على إشغال وقت النازحين وإبعادهم عن مشاعر الخوف، بل يغرس فيهم ثقافة الاستراتيجيات القابلة للاستمرار وحب البيئة، ويمنحهم أدوات عملية لمواجهة المشكلات الاقتصادية وتحقيق استقلالية ذاتية على المدى البعيد.
مهام ابعد من "الرسكلة"
وفي هذا المجال، تقول السيدة ليلى، نازحة من الجنوب: "كنت أشعر بأن حياتي توقفت بعد النزوح، حيث فقدنا منزلنا واماننا وممتلكاتنا وارزاقنا. لكن بعد مشاركتي في ورشات عمل متعددة، بدأت أشعر بأن لدي شيئاً أستطيع أن أتعلمه ويعود عليّ بالنفع".
وتتحدث منال، نازحة من ضاحية بيروت الجنوبية قائلة: "الأنشطة التي توفرها لنا بعض الجمعيات هنا تساعدنا كثيراً. لم أكن أتوقع أنني سأتعلم مهارات جديدة في مثل هذا الوقت الصعب، لكن العمل في مجال إعادة التدوير غيّر من نفسيتي وأعطاني شعوراً بالقدرة. أستطيع الآن أن أحوّل الأقمشة المستعملة إلى أشياء مفيدة، وأحلم بأن أبدأ مشروعاً بسيطاً حين تعود الأمور إلى طبيعتها. أشعر بالامتنان للجهود المبذولة لتوفير هذه الفرصة لنا".
وبدوره، يشرح الطفل أحمد، نازح من البقاع لـ "الديار" "عندما جئنا إلى هنا، كنت أشعر بالرعب طوال الوقت. لكن الآن، صار لدينا أنشطة نلعب ونتعلم من خلالها كيف نصنع أشياء جديدة من عناصر قديمة. لذلك، أشعر أنني قادر على ابتكار مقتنيات مفيدة بنفسي، وحتى عندما أعود إلى البيت بعد انتهاء الحرب، سأواصل استخدامها. أصبحت أحب العمل في الورشة لأنها تلهيني عن كل شيء سيء يحدث".
وتقول الطفلة مريم، نازحة من بعلبك: "أنا كنت أفتقد مدرستي وأصدقائي، ولكن يؤمن لنا المسؤولون هنا في مركز الايواء أنشطة ممتعة. وأحب الورشات التي تعلّمنا كيف نصنع حاجات من الأقمشة القديمة، أشعر أنني قوية حين أتعرف على امر جديد. أصبح لدي أمل بأنني يمكنني أن أستخدم هذه المهارات في المستقبل، وحتى أساعد عائلتي بها".
وتروي فاطمة، نازحة من الجنوب، "بعد فترة من النزوح، اعتقدت أن الأيام ستظل تتكرر بلا هدف. لكن عندما بدأت الانخراط في العديد من النشاطات اليدوية، شعرت انني أجد فرصة لتهدئة هواجسي، مما جعلني انظر الى المستقبل بتفاؤل. حلمي الآن هو أن أستخدم هذه المؤهلات للحصول على وظيفة لي ولعائلتي".
ويشير الطفل رامي، نازح من البقاع، الى ما مر به ببراءة "في البداية، كنت أظن أن كل شيء صعب، لكن صار لدينا أنشطة ممتعة مثل اللعب والتعلم في الورشات. نحن نلعب ونرسم، وذلك يسعدني وينسيني الاحداث السيئة التي مررت بها. أحب أنهم يعاملوننا بلطف، ويشعروننا بأننا في أمان هنا".
في الخلاصة نستنتج ان هذه الشهادات تعكس التأثير العميق للأنشطة المقدمة في مراكز الإيواء، وتبرز أهمية تلك البرامج في دعم الصمود وتوفير مساحة للتعلم والتطور للنازحين. يتجدد الأمل بفضل هذه التحركات، وبالتالي يصبح النازحون قادرين على تحويل هذه المحنة إلى فرصة لاكتساب مهارات جديدة تخدمهم على المدى البعيد، مما يبرهن على ان المجتمع اللبناني قوي وجبار ولديه قدرة خارقة وفريدة على مواجهة المشقات.