يمكن التأكيد أن الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة وعلى لبنان كان لها تأثير واضح على نتائج الانتخابات الأميركية التي جرت في 5 تشرين الثاني (نوفبر)، فالإرتكابات الفظيعة التي رافقتها من قتلٍ ودمارٍ وتجويعٍ وتشريد وتهديم للمنشآت الإنسانية والمدنية؛ لم يسبق أن حصلت من قبل. وقد تأثر الرأي العام في الولايات المتحدة الأميركية بهذه الويلات، من دون أن يكون له كبير الأثر على القرار السياسي للإدارة الأميركية التي تدعم إسرائيل، وترفض كل ما يدينها على تجاوزاتها للقانون الدولي. ولا يمكن إخفاء تأثير التحريض الذي تقوم به الدعاية الغربية ضد الذين يقاومون إسرائيل انطلاقاً من عملية 7 أكتوبر 2023 وغيرها، مما أدى الى "قلة" العطف على هذه الجهات، ووصفها بأنها قوى "إرهابية" أحياناً.
لا يمكن الاعتراف بكامل المبالغات التي ساقتها وسائل اعلام عربية، على اعتبار أن الصوت العقابي للأميركيين من أصول عربية، هو الذي أسقط المرشحة الديمقراطية كاميلا هاريس كونها نائبة الرئيس الحالي جو بايدن الذي فشل في وقف المجازر ضد الفلسطينيين واللبنانيين، مما أدى الى فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب. فهناك عوامل أخرى متعددة ساهمت في فوز ترامب، ومنها خصوصاً تصويت شريحة كبيرة من الطلاب والشباب بين عمر 18 و25 سنة ضد سياسة الرئيس بايدن الذي لم يسمع لأصوات هؤلاء في الجامعات عندما طالبوا بإيقاف الحرب على غزة، بل قمعتهم الشرطة، وأدخلت عدد منهم الى السجون. وبعض هؤلاء محسوبين على الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الأميركي.
عدد الناخبين الأميركيين من أصول عربية يتجاوز 3,7 مليون. وليس لهؤلاء انتماء سياسي موحَّد، بل هناك تنوُّع واضح في ولاءاتهم الحزبية. لكن قاسماً مشتركاً رفيعاً يربطهم مع أوطانهم الأصلية، والقضية الفلسطينية عند كل العرب؛ هي قضية حق لشعب سُلِبت أرضه اغتصاباً، وشُرِّد قهراً في أصقاع الأرض وفي الخيام، بينما المُغتصبون يسرحون ويمرحون في وطن آبائهم وأجدادهم من دون وجهة حق. وأكثر من 70 بالمئة من أصوات العرب الميركيين تذهب للأكثر تأييداً للقضية الفلسطينية – برُغم شِحَّة المؤيدين لها من المرشحين – او ضد الأكثر تأييداً للعدوانية الاسرائيلية من هؤلاء. وهذا ما حصل في الانتخابات الأخيرة.
فقد صوَّت الناخبون العرب بنسبة تزيد عن 70 بالمئة لصالح المرشح ترامب، واعتراضاً على مواقف الرئيس بايدن والمرشحة هاريس، برغم أن الأكثرية منهم كانت تؤيد سياسة الحزب الديمقراطي التي تعتبر أكثر رأفةً مع المهاجرين والوافدين وذوي الأصول الشرقية والأفريقية. واستطاعت هذه النسبة أن تُميل دفة الفوز في بعض الولايات ولو بتأثيرٍ ضئيل، بينما كان واضحاً أن موقف الناخبين من أصول عربية هي التي أدت الى سقوط المرشحة الديمقراطية كاميلا هاريس وفوز دونالد ترامب في ولاية ميشيغان التي تتمتع ب 15 مقعد في مجمَّع كبار الناخبين المؤلف من 538 عضواً. وقد حصل ترامب على 49,8 بالمئة من عدد المقترعين في الولاية، بينما انتخب لصالح هاريس 47,3 بالمئة فقط. وعدد الذين اقترعوا من أصول عربية في الولاية تجاوز 295 ألف صوت من أصل 400 ألف ناخب، وهو رقم يقارب 8% من اجمالي عدد المقترعين في كامل الولاية.
وقد شكَّلت أعادة فوز النائبة رشيدة طليب عن الولاية؛ تحدياً كبيراً للحزب الديمقراطي، وهي عربية من أصول فلسطينية، وتنتمي للحزب ذاته، وكانت قد أعلنت أنها لن تدعم المرشحة هاريس لأنها منعتها من القاء كلمة في مؤتمر الحزب الرئيسي الذي أقرَّ ترشيح هاريس رسمياً في شهر آب المنصرم، بينما سمحت لأشخاص من عائلات "الرهائن" الاسرائيليين في غزة بعرض شهاداتهم أمام المؤتمرين. علماً أن منظمة "ايباك" اليهودية الأميركية جاهدت كثيراً من أجل اسقاط طليب، ودفعت مبالغ طائلة للوصول الى هذه الغاية، لكنها فشلت في اسقاطها.
يمكن التأكيد؛ أنه كان للأصوات المُعترضة على المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين واللبنانيين تأثيراً مهماً على نتائج الانتخابات الأميركية، والصوت العقابي للأصوات الاميركية العربية، ولأصوات فئة الشباب؛ كان له تأثير في تغيير هوية بعض الولايات المحسوبة تاريخياً على الحزب الديمقراطي.
هل يتطور الوضع الى حد ترجمة القوة الناخبة من أصول عربية، وقوة الشباب الصاعدة الى تأثير سياسي على الإدارة الأميركية الجديدة، وبالتالي تحريرها من المُقيدات التي تفرضها "ايباك" على هذه الإدارة فيما يتعلق بسياستها الشرق اوسطية؟
تحتاج الإجابة على هذا السؤال الى مزيد من البحث والترقُب والعمل. ولم يتضِّح حتى الآن ما يؤشر الى تغييرات هامة في سياسة الرئيس ترامب الخارجية، تحديداً اتجاه الشرق الأوسط، على اعتبار أنه داعم لإسرائيل، ورئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو هلَّل لعودته، لأنه ربما كان قد وعده بالدعم للفوز بولاية جديدة في الانتخابات الإسرائيلية القادمة، بينما كانت إدارة الحزب الديمقراطي تحضِّر "شريكة ومنافسه" المُقال وزير الدفاع يوآف غالانت، كما أن ترامب كان قد أعلن عن تأييده لتقويض السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية ودمجها مع الكيان الغاصب، وهو سبق أن نقل سفارة الولايات المتحدة الى القدس، واعترف بضمَّ الجولان عام 2017 بما يخالف كل القرارات الدولية ذات الصلة.
الأميركيون من أصول عربية مطالبون بزيادة ضغوطاتهم على الإدارة الجديدة لضبط جنوحها المؤيد للعدوان الإسرائيلي، بينما مطلوب من العرب استثمار هذه الوضعية وتقديم الدعم لها، واستثمار هذه الوضعية بمثابة المقاومة السياسية التي قد تحقِّق إنجازات لم يحققها الميدان.