لا ينتصر في الحرب سوى من يربح هذه الحرب من دون أن يخوضها. والخسائر التي حصلت أكبر من أي انتصار، والقلق الناتج عنها كبيرٌ جداً عند كل المجموعات اللبنانية، وفي المقدمة منهم الدروز، واجتماعهم الواسع على عجل في بعذران ليس خبراً عادياً.
بدعوة من الأستاذ وليد جنبلاط؛ التقى قادة الدروز الروحانيون والزمنيون في خلوات القطالب ببعذران الشوف نهار السبت 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2024. وكان المشهدُ مُكتملاً؛ فحضر شيخ العقل المُنتخب الدكتور سامي أبي المنى وإلى جانبه الشيخ نصر الدين الغريب، وأصحاب العمائم المكولسة بمجملهم، وبينهم مُستضيف اللقاء والمُشرف على خلوات القطالب التاريخية الشيخ أبو داوود منير القضماني، ولهؤلاء مكانة مميزة عند رجال الدين الذين لبوا الدعوة بالآلاف، والقليلون الذين تغيبوا كان عذرهم الوضع الصحي الخاص، أو "حمل ثقلة" وهذه جملة يرددها الأتقياء تهيباً لأي احراج. بينما على ضفة رجال السياسة كان النصاب مكتملاً عن بكرة أبيه، وتمثلت الأحزاب والقوى جميعها، بما في ذلك "الحراك المدني" إضافة إلى وجود نواب الطائفة ووزرائها الحاليين والسابقين وقضاة المذهب وأعضاء من المجلس المذهبي وإدارته.
لا تحصل مثل هذه اللقاءات الدرزية الجامعة بالأوقات العادية، فالتنوُّع والتعددية في الطائفة واقعٌ قائم منذ القِدم كما لدى كل الطوائف اللبنانية، والتبايُنات حول بعض الملفات السياسية والذاتية ليست بسيطة، برغم وجود قانون خاص يحدِّد كيفية تولية أصحاب الشأن والمقامات الرسمية، المخولين تمثيل الطائفة ورعاية شؤونها. فمثل هذا الاجتماع حصل في نيسان (أبريل) 1983 في دارة خلدة بحضور شيخ العقل حينها المغفور له محمد أبو شقرا ووليد بك جنبلاط والأمير الراحل مجيد أرسلان الذي كان على فراش السقم، لمطالبة الدولة بالحيادية وبإنصاف الطائفة لتلافي حربٍ ضروس ما لبثت أن وقعت، وكان العامل الإسرائيلي حاضراً ومحرضاً فيها. والمرَّة الثانية حصل مثل هذا الاجتماع في 11 أيار (مايو) 2008، وفي ذات المكان في بعذران، وغلب عليه حضور رجال الدين وفي مقدمتهم شيخ العقل حينها القاضي نعيم حسن، لتعذُّر وصول بعض السياسيين، وأطلق الإجتماع صرخة مدوية لوقف الجنوح الذي حصل حينها، وكاد أن يجرُّ البلاد إلى حربٍ مؤلمة بين الأخوة.
من المؤكد أن لقاء بعذران الحالي تجاوز بأهميته ونصابه اللقاءين السابقين، وقد تكون أسباب ودوافع الدعوة إليه، كما المواضيع التي بُحثت فيه، غاية في الأهمية، ومواجهة الأخطار القادمة تحتاج لتجاوز كل الخلافات والحساسيات، ولو لم تكُن هذه الفرضية قائمة وجدية، لما أقدم صاحب الدعوة على هذه المبادرة واعداً باستكمالها في أماكن أخرى، ولما كان الحضور على هذا المستوى من الشمولية، لأن الدروز في المصاعب "كطبق النحاس" كما أشار الوزير السابق طلال أرسلان في كلمته أمام الحاضرين.
وصاحب الدعوة وليد جنبلاط لخَّص أهدافها والغرضية من الاجتماع بنقاط مُحددة، عرَّج فيها على أهمية احتضان النازحين والانتباه لأي مظهر يمكن أن يشكل خطراً على أهل الجبل وعلى المهجرين في ذات الوقت، مؤكداً على أن يكون العمل من خلال البلديات واللجان المحلية وبالتنسيق الكامل مع أجهزة الدولة وفي مقدمتها الجيش. لكن الأبرز في مداخلة جنبلاط، كانت إشارته إلى أن الوضع غاية في الغموض والخطورة، مشيراً إلى تنامي دعوات التحريض من الداخل ومن الخارج على توتير الوضع بين المقيمين والنازحين، وهذا التحريض بغالبيته مشبوه الأهداف، أو ناتج عن تفاقم حالة من الخوف من الآخر، وهي ظاهرة لبنانية قائمة، ويجب العمل على دفنها إلى الأبد، فلا خيار للبنانيين إلا العيش مع بعضهم البعض، ولا يوجد أي مقومات موضوعية لنشوء نزاع داخلي، فالحرب الأهلية التي يذكِّرون فيها، بين مَن ومَن ستحصل اليوم؟ كما أشار جنبلاط، فلا يوجد أطراف لمثل هذه الحرب البغيضة المفترضة.
لكن الثوابت الوطنية والعربية التي وافق عليها المجتمعون كخيار دائم للموحدين الدروز، كونهم لا يحملون أي آجندة سوى الحفاظ على كرامتهم وأرضهم والتمسُّك بوحدة الدولة ومؤسساتها؛ لا تعني بأن تداعيات الحرب العدوانية على لبنان وفلسطين معروفة النتائج، وهي قد تتطور بما لا يتوقعه أحد، والفرضيات الموسومة لنتائجها مُخيفة، وهي قد تدفع المكونات المجتمعية اللبنانية إلى خيارات راديكالية، كما أنها قد تزيد من حدة الانقسامات بين اللبنانيين، فالذين يخافون من انتصار المقاومة يبالغون في مقارباتهم التشاؤمية، وهؤلاء لا يدركون حالياً أن هزيمة المقاومة أشدُّ وطأةً وهولاً على لبنان، وهو يعني انتصار العدو الإسرائيلي، فالعدو يبقى عدواً، أما الخصم السياسي الداخلي فيبقى أخاً وشريكاً في الوطن مهما اختلفت معه.
نجح الاجتماع الاستثنائي في تأكيد وحدة الدروز في القضايا المصيرية، ونجح وليد جنبلاط في لعبِ دورٍ لا يقوم به إلا الرجال الاستثنائيون، وباعتراف الجميع، بمن فيهم نائب "الحراك" مارك ضو. لكن الاجتماع رسم بالمقابل صورة سوداء عن مستقبل المنطقة ولبنان، ولم يُبدِّد الهواجس التي لم يقُلها أحد في العلن، لكن الغالبية تبوح فيها بالكواليس: ماذا عن مستقبل لبنان إذا ما هُزمت "المقاومة" وكيف ستتصرَّف إسرائيل بعد ذلك؟ وماذا عن المستقبل إذا انتصرت المقاومة على ما يؤكد بعض قادتها الذين ما زالوا على قيد الحياة؟
الحاضرة اللبنانية لن تقبل بتكرار تجربة ما بعد اجتياح العام 1982 التي أوقعت الحروب والمآسي، وهذه الحاضرة؛ لن تقبل أيضاً البقاء بالمربع الذي سبق الحرب المدمرة الحالية، بمعنى أنها لن تتساهل في تغييب الدولة والإبقاء على السلاح بيد مجموعات لبنانية دون أخرى، ومهما كان السبب وجيهاً ونضالياً. وحدها الدولة الضامنة للبنان وللبنانيين، وهي التي تحفظ تضحيات المقاومين، وتكفل إعادة إعمار البلدات والمدن التي دمرها العدو الإسرائيلي، وهي التي تضمِّد جراح المصابين والمنكوبين.
قديماً قيل: لا ينتصر في الحرب سوى من يربح هذه الحرب من دون أن يخوضها. والخسائر التي حصلت أكبر من أي انتصار، والقلق الناتج عنها كبيرٌ جداً عند كل المجموعات اللبنانية، وفي المقدمة منهم الدروز، واجتماعهم الواسع على عجل في بعذران ليس خبراً عادياً.