بشكل مفاجئ طغت الأجواء الإيجابية على مسار المفاوضات لوقف الحرب الإسرائيلية على لبنان. تعاطى لبنان معها بحذر، لكنه تلمّس بعض المؤشرات الجدّية لدى الأميركيين بمجرّد الإعلان عن زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين إلى تل أبيب، برفقة مستشار البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك. فاعتبر اللبنانيون أن هذه الحركة قد تفضي إلى تقدّم معيّن، خصوصاً أن ماكغروك أتى ليمارس المزيد من الضغوط على الإسرائيليين.
في المقابل، هناك وجهة نظر أخرى تشير إلى أن الزيارة تتصل بحسابات انتخابية أميركية محضة، على مسافة أيام قليلة من بدء الاقتراع، وسعي الإدارة للوصول إلى تفاهم، إما طويل الأمد أو مؤقت أو هدنة لأيام قليلة، لتمرير الاستحقاق وتحسين الظروف الانتخابية، خصوصاً في ولاية ميتشيغين المتأرجحة. لذلك كثرت العروض حول اتفاقيات في غزة أو لبنان، ووضعت الكرة في ملعب نتنياهو، وإذا كان سيمنح الإدارة الأميركية هذه الورقة قبل أيام قليلة من الانتخابات.
ألاعيب نتنياهو
لا يبدو نتنياهو قادراً على معارضة الإدارة الأميركية إلى حدود بعيدة في رفض المقترح من أساسه أو رفض التفاوض، لا بل هو عمل على تسريب أجواء إيجابية كثيرة، توحي بقبوله وقف إطلاق النار والوصول إلى اتفاق. وهو بذلك يسعى إلى إرضاء الأميركيين والقول إنه لا يعارض مساعيهم. في المقابل، عمل على تسريب مسودة الاتفاق والتي تشير إلى شروط قاسية على لبنان، خصوصاً لجهة آلية تطبيق القرار 1701 بحذافيره، والإشارة إلى أن القرار 1701 يجب أن يطبق بالاستناد إلى القرار 1559. وبُعيد تسريب الاتفاق، أدلى الوزير المتطرف إيتامار بن غفير بموقف، هدد فيه بالاستقالة من الحكومة في حال وافق نتنياهو على وقف إطلاق النار ضد حزب الله. هذا المشهد يذكّر إلى حدود بعيدة بسيناريوهات التفاوض في غزة. إذ كان نتنياهو يوحي بأجواء إيجابية يرفضها بن غفير وسموتريتش، وبعدها يتم التراجع عن الاتفاق.
الورقة الأميركية-الإسرائيلية
في موازاة تسريب مسوّدة الاتفاق، تم تسريب ورقة مشتركة بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل تحاكي اتفاقاً جانبياً حول ضمان "أمن إسرائيل". ويشير الاتفاق إلى أن الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل سيكونان المجموعتين المسلحتين الوحيدتين المنتشرتين في جنوب لبنان. وسيُسمح ببيع أو توريد الأسلحة والمواد ذات الصلة للجيش اللبناني فقط، وستخضع جميع عمليات إنتاج الأسلحة في لبنان لسيطرة الحكومة اللبنانية. مع حصول مراقبة شديدة برياً وبحرياً لكل عمليات استيراد الأسلحة.
وتضيف المسوّدة أنه سيتعين على الجيش اللبناني أيضاً مراقبة وإنفاذ هذه الشروط، وتفكيك أي بنية تحتية عسكرية لا تخضع لسيطرة الحكومة اللبنانية. وتقول المسوّدة إن الاتفاق سيتم تنفيذه على مدى فترة 60 يوماً. وستسحب إسرائيل جميع قواتها من لبنان على مراحل لا تتجاوز 7 أيام بعد إعلان وقف إطلاق النار. وسينتشر الجيش اللبناني في جنوب لبنان بهدف الوصول إلى 10 آلاف جندي في المنطقة. وبحسب المسوّدة، فإن إسرائيل ولبنان والولايات المتحدة ودول أخرى ستنشئ أيضاً آلية مراقبة وإنفاذ خلال هذه الفترة لحل النزاعات والتعامل مع الانتهاكات المزعومة.
ويشير الاتفاق الجانبي إلى أن الولايات المتحدة ملتزمة بتعيين ضابط عسكري أميركي كبير ومسؤول كبير في الأمن القومي الأميركي لرئاسة آلية المراقبة. كما تضيف مسوّدة الرسالة الجانبية أيضاً أن الولايات المتحدة وإسرائيل ستتبادلان المعلومات الاستخباراتية بشأن الانتهاكات المشتبه بها، بما في ذلك انضمام أعضاء "ميليشيا" حزب الله إلى الجيش اللبناني. ووفقاً لمسودة الرسالة الجانبية، فإن الولايات المتحدة "تعترف" بأن إسرائيل قد تختار التحرك ضد الانتهاكات إذا فشل الجيش اللبناني واليونيفيل في القيام بذلك. وتريد الولايات المتحدة أن تنص الرسالة على أنها ستُستشار بشأن أي ضربة إسرائيلية في لبنان وأن الهجوم من شأنه أن يتجنب وقوع إصابات بين المدنيين إلى أقصى حد ممكن، كذلك فإن الرحلات الجوية الإسرائيلية فوق لبنان ستكون لأغراض استخباراتية فقط "ولن تكون مرئية للعين المجردة إلى الحد الممكن" ولن تخترق جدار الصوت.
إفشال المفاوضات
عملياً يشير هذا الاتفاق بين أميركا وإسرائيل إلى تعارض كبير مع ما يطالب به لبنان الذي يتمسك بتطبيق القرار 1701 كاملاً ومن دون أي تعديلات، مع التشديد على وقف الطلعات الجوية الإسرائيلية في الأجواء اللبنانية. في هذا السياق، تشير مصادر متابعة إلى أن نتنياهو يفرض هذه الشروط العالية والتي لا يمكن للبنان أن يوافق عليها لتحميل اللبنانيين مسؤولية رفض الاتفاق. كما كان يفعل في غزة خلال مفاوضاته مع حركة حماس إذ عندما توافق الحركة على اتفاق معيّن يلجأ نتنياهو إلى زيادة شروطه أو يصعّد من عملياته العسكرية لضرب المسار التفاوضي، وهو ما يكرره في لبنان من خلال تصريحات تشير إلى الإصرار على التفاوض تحت النار، إذ بالتزامن مع زيارة هوكشتاين وماكغورك إلى تل أبيب سرّبت القناة 12 الإسرائيلية خبراً حول استعداد إسرائيل لتوسيع العملية البرية في لبنان لأن المفاوضات ستكون بحاجة إلى المزيد من الوقت.
تسريب الإسرائيليين للشروط والمسودات هو محاولة إفشال مسبقة للمسعى الأميركي، خصوصاً مع التسريبات التي تتحدث عن اتفاقية أميركية إسرائيلية جانبية والتي من المستحيل للبنان أن يقبل بها. فالاتفاق الذي يريده لبنان وتفاوض فيه مع هوكشتاين وتم التفاهم حوله يختلف كلياً عن ما يريده الإسرائيليون. فلبنان وافق على تطبيق القرار 1701 من دون إضافات أو زيادات على آلية تطبيقه. وتؤكد مصادر رسمية لبنانية أن الاتفاق يضمن سحب سلاح حزب الله من جنوب نهر الليطاني ودخول الجيش واليونيفيل، والسيطرة على المنطقة مع تعزيز عديدهما، ومع صلاحية لليونيفيل حول مراقبة وتفتيش المواقع، وشدد الأميركيون في المقترح على ضرورة وجود مراقبين أميركيين لمتابعة آلية تطبيق القرار وتنفيذه، فيما هناك سعي من قبل لبنان، ولا سيما رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لأن يشارك الفرنسيون أيضاً في آلية المراقبة إلى جانب الأميركيين.
الشروط التي يضعها نتنياهو تبدو تعجيزية بالنسبة إلى لبنان، أما موافقته على المقترح الذي يطالب لبنان بتطبيقه فهي تبدو صعبة جداً، إلا إذا قبض ثمناً كبيراً وهذا الثمن هو الحصول على تعهد رسمي ومكتوب من قبل الأميركيين حول قدرته على التحرك عسكرياً عندما يريد ذلك، تماماً كما طلب من واشنطن التعهد نفسه في غزة بأنه سيواصل القتال بعد إنجاز صفقة تبادل الأسرى. وذلك غير مقبول على الإطلاق من قبل اللبنانيين.
الحزب وكلمة الميدان
بالنسبة إلى حزب الله الشكوك كبيرة جداً بنوايا نتنياهو. ويعتبر أن الرهان الوحيد على إجبار نتنياهو على التراجع هو توجيه ضربات قوية له في الميدان. وبحسب المعلومات القريبة من الحزب فهو يرفض تسليم سلاحه، ويرفض الانسحاب من جنوب الليطاني، والحلّ المقبول بالنسبة إليه هو تطبيق القرار 1701 ودخول الجيش واليونيفيل وهو يعمل على إخفاء سلاحه وتوضيبه وربما يكون ذلك تحت الأرض، ولا يعود لاستخدامه، ولكن الحزب لن يقدّم أي تنازل حول الانسحاب لأن ذلك سيظهره وكأنه قد هُزم، كما يرفض الحزب وجود لجنة دولية لمراقبة عملية إدخال الأسلحة، فهذا يعني أن المطلوب هو فرض حظر على لبنان وسيادة أمنية إسرائيلية وهو أمر لا يمكن أن يقبله الحزب، الذي يعتبر أنه بإمكانه تغيير ميزان القوى التفاوضي في الميدان من خلال توجيه ضربات قوية للإسرائيليين. هنا يعود الحزب إلى معادلة الكلام للميدان، وهو الميدان نفسه الذي يريده نتنياهو أن يبقى مفتوحاً لإضعاف الحزب عسكرياً وللتحول لاحقاً نحو إيران، بينما إيران والحزب لا يقدما أي تنازلات تتلاقى مع الشروط الإسرائيلية حالياً، ولا بد من انتظار نتيجة المعارك العسكرية والانتخابات الأميركية، خصوصاً في حال فازت كامالا هاريس فيمكن لها أن تضغط مع بايدن، خلال الفترة المتبقية لديه، على نتنياهو لوقف الحرب.