صواريخ مُدمرة بخدمة دبلوماسية ماكرِة

31 تشرين الأول 2024 18:01:20

من المؤكد أن الكثير من القنابل التي تُرمى بكثافة فوق بيوت غزة وعلى تلال قرى جنوب لبنان وأبنية الضاحية والبقاع؛ تعود الى حقبة الحرب الباردة، وهي تحمُل مُوجهات حديثة بالليزر، لتصيب أهدافها بدقة. وقد كشف تسجيل لراعي من بلدة أبل السقي الحدودية أسرار هذه القنابل، عندما تمنَّع عن تسليم احدى القذائف غير المنفجرة والتي وقعت بالقرب من "المراح"، لأن "فراغة" القذيفة بمثابة ثروة نحاسية، يمكن استخدامها "نقير" لكي يسقي منه القطيع، وإذا باعها يحصد بقيمتها مبلغ يزيد عن غلة القطيع ذاته.
تحتاج الدول الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، الى تفريغ مستودعات جيوشها من الأسلحة العتيقة، لملئها بالسلاح المتطور الحديث، وبعض القنابل يصعب تلفها، او رميها، فذلك يكلِّف أموالاً كثيرة، وفيه خطورة دائمة. وبالتأكيد فهي ترغب باستعمال القنابل في مهام استراتيجية، تحقق مصلحة عليا، وليس مهماً مَن يقع ضحية لهذا الاستعمال، فقتل الناس، كما تدمير المُنشآت، وسائل إضافية لفرض الهيمنة على الدول والقارات، وبأساليب حديثة. تلك المقاربة تنطبق على الاستهلاك الكبير للأسلحة والذخائر في الحرب الاوكرانية من قبل جهتي الصراع، وهو ما يحصل ايضاً في حروب الشرق الأوسط، من خلال العدوان الإسرائيلي، بعد أن انتهت التجارب المُدمرة عليها في جبال تورا بورا الأفغانية وفي العامرية ببغداد.
تحمل القنابل العتيقة مُوجِهات حديثة لتصيب الهدف بدقة، وتنقُل المُسيرات الخفيفة صواريخ ثقيلة الى داخل غرف النوم وبين خيم البؤساء والمُشرَّدين في مخيمات فلسطين وفي مدارس لبنان المنكوبة. حاول الشهيد يحيى السنوار تعطيل المُسيَّرة التي لاحقته في يده المبتورة، ولكنه لم يتمكن من خدشها، لأن القنابل الغاشمة – الذكية؛ كانت قد هشَّمت أصابعه الخمسة قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ودبلوماسية القنابل والمُسيرات التي منعت رفع الأنقاض عن المباني التي سقط فيها شهداء قادة في الضاحية الجنوبية، هي ذاتها الدبلوماسية التي قررت توجيه رسائل خشنة للرئيس نبيه بري خلال زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين الى بيروت في 21 تشرين الأول(أكتوبر) 2024. وبدل أن يكون الجواب كلامياً على قول الرئيس بري "لا يمكن إعطاء إسرائيل في السياسة ما لم تحققه بالحرب" فقد انطلقت الصواريخ العتيقة – الحديثة الى محيط منازل بري ببيروت وفي الجنوب، وسقطت على رؤوس مؤيديه وربعهِ في أطراف بيروت، وفي ضواحي الضاحية، وبالقرب من المستشفيات التي يمون عليها.
من الواضح أن القنابل الغاشمة - العتيقة والمُحدَّثة – لا تنطلق من تلقاءِ نفسها، فهي تُطلق بقرار، وتتوجه الى أهدافها بدقة، وبعضها يدافع عن أفكار غير دقيقة بدأ الحديث عنها وجمعت قبل 2000 سنة كوصايا تلمودية لم تُذكر في الثوراة على الإطلاق، بينما تحمي بروباغاندا العصر الصهيونية موبقات الحروب بشعارات غريبة، منها حق الدفاع عن النفس لقوة محتلة بالأساس، وليس لها حق ممارسة هذا الدور وفقاً لمنطوق ميثاق الأمم المتحدة، بينما يجهد آخرون في تقديس رؤاهم الفقهية ومشاريعهم التحررية، في الوقت الذي لا يخدم بعضها قضية الشعوب التي تدفع الثمن، او تموت مجاناً من أجل هذا الشعار.
غادرت رئيسة وزراء إيطاليا الجميلة جورجيا ميلوني بيروت مساء نهار الجمعة 18 تشرين الأول 2024، أي في نهاية الأسبوع، ووصلها المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين مطلع الأسبوع التالي. تبيَّن أن ميلوني تحمل رسالة اعتراض على تغييبها عن القمة التي عقدها قادة الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا عند ضيفهم المستشار الألماني أولاف شولتس في برلين في ذات الوقت، وهي أدانت تجاوزات القوات الإسرائيلية ضد "اليونيفيل" وضد المدنيين، ودعت لدعم الجيش اللبناني وانهاء الحرب، بينما حمل هوكشتاين رسالة قاسية للمسؤولين اللبنانيين، يطلب فيها تطبيق القرار 1701 فوراً، وهو قد يكون راغب في دفع الجيش اللبناني لمواجهة المقاومين، وقبل وقف اطلاق النار.
لم يسبق أن كانت منظومة "المجتمع الدولي" التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية بهذه القساوة، فهي لا تتحرَّك تحت ضغط المآسي والمجازر والارتكابات، بينما تدفعها مصالح الدول الكبرى الى التحرُّك من دون أي تأخير، لا سيما عندما يتعلَّق الأمر بإمكانية تفلُّت بعض المناطق الاستراتيجية في العالم من تحت عباءتها. والأمر ذاته ينطبق على الدول الاقليمية التي تحلم باستعادة الأمجاد الإمبراطورية على حساب مصالح الشعوب المجاورة لها، وهي تستخدم شعارات غريبة عن ثقافة دول "المحور" بينما لا تفعل ما يستوجب الدفاع عن هذه الشعوب عندما يتعلَّق الأمر بدفع فاتورة المقاومة.
تخطئ الولايات المتحدة الأميركية إذا اعتقدت أن الاستثمار الجيو سياسي المُعاصر في المنطقة العربية يمكن أن يعتمد على منهجية القوة، وعلى التبنِّي الممجوج للفكر الصهيوني العدواني المتجدِّد. والعقيدة الميكيافيلية التي تعتمدها الإدارة الخفية في واشنطن، قد لا تُصيب دائماً في تحقيق الهدف بصرف النظر عن الوسيلة المستخدمة. فمنسوب التأثير لدى الأفراد على الإدارات بتزايدٍ واضح، ولو كانت حركته بطيئة. بينما شرائح واسعة من الشعب الأميركي بدأ يسأل عن جدوى دفع ما يزيد عن 100 مليار دولار من أموال المكلفين لإسرائيل ولأوكرانيا بسنةٍ واحدة، في الوقت الذي يعاني منه الاقتصاد الأميركي من صعوباتٍ كبيرة؟
أما الذين يسبحون في المياه اللبنانية العكِرة، وعلى اختلافهم؛ فربما يحتاجون الى شيء من التواضع رأفة بالشعب، وتجنُباً لمخاطر دبلوماسية القنابل العتيقة. فقد حان وقت استراحة المحارب الذي أنهكته متاعب الأخوان.