ليست التسريبات التي تصدر عن الإعلام الإسرائيلي أو عن الجيش ومسؤولين أمنيين حول اقتراب انتهاء العملية العسكرية في لبنان بالأمر العبثي. لا سيما إذا ما تم النظر إليها من وجهة نظر الإسرائيليين وبعض القوى الدولية الداعمة لهم. فالمقصود هو بلوغ مرحلة "الربع الساعة الأخير" من المعركة، وفق ما يفكرون، ويعبّرون في بعض الكواليس الديبلوماسية الدولية عن طي صفحة مرحلة والانتقال لمرحلة جديدة، بعد توظيف هذه العمليات العسكرية والاغتيالات سياسياً، في سياق إعادة إنتاج موازين قوى سياسية جديدة في لبنان وعلى مستوى المنطقة، طالما أن الإسرائيليين يعبرون دوماً عن سعيهم لتغيير وجه الشرق الأوسط، فيما صرّحت المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة أنه لن يتم السماح لإيران أو أذرعها أن يملوا مستقبل المنطقة.
تركيبة سياسية جديدة
بمعنى أوضح فما يقصده الإسرائيليون عن اقتراب انتهاء الحرب، ليس المقصود مسار العمليات العسكرية والميدانية بل استباق نتائجها سياسياً، من خلال الضغوط والشروط التي يتم فرضها، ويُراد منها أن تعيد إنتاج تركيبة سياسية جديدة متوازنة ومتوائمة مع التطلعات الدولية، أو في ما يتطابق مع "معالم النظام الإقليمي الجديد". بمعنى أكثر وضوحاً، فإن التصعيد الناري من قبل الإسرائيليين وتوسيع التوغل، يهدف إلى فرض الشروط بطريقة أسرع. وكأن الإسرائيليين يتدرجون في معركتهم، من خلال التوغل إلى منطقة معينة وبعدها يقدمون عرضاً تفاوضياً، في حال تم رفضه ينتقلون إلى مرحلة جديدة. وهو ما يحصل حالياً ما بين المرحلة الأولى من العملية البرية والمرحلة الثانية.
الأكيد أن الهدف الإسرائيلي هو تغيير كل الوقائع الميدانية والجغرافية في الجنوب، من أجل إقامة شريط عازل يريدونه خالياً من السكان ومن كل مقومات الحياة، من خلال عمليات التفجير التي تحصل. ما يريده الإسرائيليون سياسياً أيضاً، هو القضاء على حزب الله، وإن ما لم يعلنوه صراحة، ولكنهم أبلغوه لجهات دولية وديبلوماسية عديدة. وهذا المسار يتأكد من خلال عمليات الاغتيال والاستهداف المركّز لشخصيات وقيادات الحزب، التي أصبحت في غالبيتها أهدافاً للإسرائيليين. وهو ما يتأكد أكثر في تصريحات وزراء إسرائيليين عن انتخاب الشيخ نعيم قاسم أميناً عاماً. إذ قال وزير الأمن يوآف غالانت إنه "تعيين مؤقت وقد بدأ العدّ التنازلي"، في تهديد واضح بتنفيذ عملية اغتيال بحال تمكنوا من ذلك. هذا يثبت المشروع الإسرائيلي في ضرب كل مقومات الحزب سياسياً وعسكرياً.
رد حزب الله
يعرف حزب الله ذلك جيداً، وهذا ما كان متأكداً منه منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزّة. وهو ينظر إلى كل ما يجري في لبنان بأنه تكرار لسيناريو غزة. ولا يزال الحزب يصرّ على المنازلة في الميدان لتغيير وقائع المعركة العسكرية ونتائجها. وقد جاء ردّه من خلال اختيار أمين عام جديد، وذلك لأسباب عديدة. أولاً، جاء انتخابه بعد شهر بالتمام والكمال على اغتيال الأمين العام السيد حسن نصرالله، إذ انتخب قاسم يوم 27 تشرين الأول. ثانياً، لتأكيد مركزية القيادة والقرار. ثالثاً، للرد على كل الكلام حول القيادة الإيرانية لحزب الله. تأتي خطوة الحزب في ضوء ارتفاع منسوب الاعتراض في الداخل اللبناني على طريقة التعاطي الإيرانية. إذ أعطى الإيرانيون انطباعاً بأنهم هم أصحاب القرار وهم الذين يفاوضون. وإثر هذه الخطوات الاعتراضية من جهات سياسية متعددة، جاءت خطوة قاسم لإظهار لبنانية القرار ومركزيته داخل الحزب.
كل السلوك الإسرائيلي يشير إلى عدم الموافقة على الصيغ الديبلوماسية والتفاوضية المقترحة، بما فيها دور قوات اليونيفيل. وكلما طالت الحرب وتأخرت، سيسعى الإسرائيليون إلى فرض شروط جديدة، وللإعلان عن ما ضمروه طوال الأشهر الفائتة، خصوصاً لجهة عدم الاقتناع بالقرار 1701، والمطالبة بضمانات أساسية وواضحة لتطبيقه أو تطبيق ما سيعدّل عليه سياسياً. أما عندما يقول الإسرائيليون إن معركتهم الأساسية هي مع إيران وحلفائها في المنطقة، فهذا يعني أن الأهداف السياسية لهذه العملية هي إقصاء إيران ونفوذها وتحكمها عن دول المنطقة. بالنسبة إلى الجو الدولي، فإن المؤشرات تدلّ على سلوك منهج يسعى لإنتاج تركيبة سياسية جديدة، أو توازنات سياسية تتغير بموجبها كل المقاربات التي كانت قائمة سابقاً، على قاعدة أنه لم يعد بالإمكان للبنان أن يُدار كما كان عليه الوضع في السابق، وهناك شروط وفروض عليه الالتزام بها.
المرحلة التالية
هذه التركيبة التي يتم البحث بها، لا يراد لها أن تبقي إيران صاحبة قرار ونفوذ واسع. ما تريد أن تتعاطى معه الدول هو أن هناك مرحلة طويت، والآن هي بداية تكوين لمرحلة جديدة، مع تركيبة سياسية مختلفة في إدارتها ومقاربتها. في المقابل، فإن صمود الحزب يرتبط بترتيب وضعيته والحفاظ على قوته الداخلية ولمنع إقصائه من المعادلات، كما تحاول بعض الجهات الخارجية أن تفرض. حزب الله وإن تعرض لانكسارات عسكرية إلا أنه يريد أن يبقى قادراً على الحفاظ على وضعيته السياسية والاجتماعية، بينما كل الضغوط تتركز على محاولة تغيير وضعية الحزب إما بتطويقه أو بتغيير كل وجهته السياسية.
المرحلة الثانية من المعركة أو الحرب، ستكون مؤجلة إلى ما بعد انتهاء العمليات العسكرية، والتي ستكون مرتبطة بمسارات إعادة الإعمار، والتمويل، وتوفير المساعدات للبنان بقواه الاجتماعية المختلفة. وما يرد من أجواء دولية يفيد بأن كل هذه المساعدات ستكون مشروطة بارتضاء اللبنانيين لهذا التغيير، وإبداء الاستعداد للدخول في المرحلة الجديدة. من دون ذلك، فإن هذه الدول ستبقى في حالة عدم اهتمام بلبنان وإبقائه يتيماً، أو وحيداً كما هو متروك اليوم.