على أكثر من مسار، تدور المفاوضات حول الملف اللبناني: مسار التفاوض لوقف إطلاق النار. مسار التفكير بآلية لتطبيق القرار 1701. ومسار البحث في مرحلة ما بعد الحرب، سياسياً.
أكثر من جهة تسعى إلى الانخراط في هذه المفاوضات، مع التركيز على فكرة أساسية وهي "مرجعية القرار الأميركي". بمعنى أن أي مفاوضات ستحصل يُراد لها أن تكون تحت سقف الشروط الأميركية، في إطار التثبيت الأميركي للوجود والنفوذ في المنطقة. وهو ما يتلاقى مع المشروع الأميركي الضخم في بناء أكبر السفارات في لبنان. لذلك، ومع كل الحديث عن اتفاق ملحق أو "آلية" لتطبيق القرار 1701، لم يؤيد الأميركيون أي فكرة تتعلق بإدخال تعديلات على القرار، لأن أي تعديل سيكون مرتبطاً بالحاجة إلى التصويت عليه في مجلس الأمن. وهو غير ممكن بسبب الفيتو الروسي والصيني، أو سيكون بحاجة إلى التفاوض الأميركي المباشر مع الطرفين لتمرير التعديل. وهذا ما يرفضه الأميركيون الذين لا يريدون إعطاء أي دور لروسيا والصين في ملفات المنطقة، وخصوصاً لبنان وفلسطين.
حماس والصفقة مع أميركا
فعلى الرغم من كل الزيارات التي قامت بها وفود فلسطينية إلى روسيا ولاسيما من حركة حماس، إلا أن في موسكو قناعة بأن حماس تريد الذهاب نحو إبرام صفقات واتفاقات مع الولايات المتحدة الأميركية وليس مع روسيا. وعندما تقدّمت روسيا بمبادرة لوقف الحرب في غزة، لم يحصل أي تجاوب معها. كما أنها طلبت من حركة حماس سابقاً العمل على إطلاق سراح رهائن إسرائيليين من حملة الجنسية الروسية، لكن الحركة لم تستجب لذلك.
في المقابل، يخوض الأميركيون مفاوضات شاقة مع حماس عبر مصر وقطر، لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين من حملة الجنسية الأميركية. وهو مكسب انتخابي تسعى الإدارة الأميركية إلى تحقيقه قبل أيام قليلة من الانتخابات، مما دفع إلى تفعيل المفاوضات وتكثيفها مؤخراً، وصولاً إلى المقترح المصري بهدنة لأيام قليلة، يتم خلالها إطلاق سراح أربعة رهائن، وهم من حملة الجنسية الأميركية، على أن يُفتح مسار جديد للتفاوض حول وقف النار النهائي أو حول الوصول إلى هدنة لستة أسابيع أو لستين يوماً.
تنسيق أميركي-قطري
إلى جانب الهدف الانتخابي الأميركي، هناك دوافع أخرى فتحت الباب أمام تجديد المفاوضات، هو الضغط الدولي الكبير لعدم اتساع الحرب. وهو ما أدخل الكثير من العناصر الإقليمية والدولية على خط التفاوض. ففي لبنان مثلاً، برزت الحركة الأوروبية، لا سيما مع المؤتمر الذي دعت إليه فرنسا، في موازاة التحرك الإيطالي والألماني باتجاه بيروت، مع طروحات متعددة.
تتحرك هذه الدول بتنسيق كامل مع الولايات المتحدة الأميركية، ولكل طرف رؤيته وشروطه وضغوطه. وإلى جانب اللقاءات الثنائية بين ممثلين عن هذه الدول، عُقد اجتماع في نيويورك قبل حوالى الأسبوعين على مستوى وزراء خارجية عدد من الدول الأوروبية والعربية مع وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، هو ما فتح الطريق أمام هذا المسار المتجدد من المفاوضات سعياً وراء الوصول إلى وقف لإطلاق النار. هذا الاجتماع هو الذي تحركت مصر على أساسه في مقترحها حول الهدنة، فيما يتواصل التنسيق الأميركي القطري لأجل خفض التصعيد على المستوى المنطقة، ولا سيما من خلال محاولة احتواء الضربة الإسرائيلية على إيران وتخفيفها، بالإضافة إلى تجديد المفاوضات في العاصمة القطرية الدوحة.
وقائع جديدة في دمشق
صحيح أن المفاوضات حالياً تتركز على مسألة وقف إطلاق النار أو إنهاء الحرب، وهو ما لا يريده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلا أنها أيضاً تشتمل على التفكير والبحث في مرحلة ما بعد الحرب، ليس فقط في غزة بل في لبنان، وربما سوريا، خصوصاً في ضوء التركيز الإسرائيلي المتجدد على الوضع السوري والتهديدات ضد النظام السوري التي أطلقها الوزير المنضم حديثاً للحكومة الإسرائيلية جدعون ساعر، والذي أكد وجوب التحرك الإسرائيلي في سوريا لإخراج إيران من هناك، ولو اقتضى ذلك إسقاط النظام. لا ينفصل ذلك عن العمل الميداني الذي يقوم به الإسرائيليون من خلال عمليات قصف واستهداف لمواقع تابعة للإيرانيين، أو لقطع طرق الإمداد لحزب الله، أو من خلال التوغل البرّي في محافظة القنيطرة.. فهذه التحركات يراد لها أن تفرض وقائع سياسية جديدة في دمشق لاحقاً.
التغيير في لبنان
الأمر نفسه ينطبق على لبنان، من خلال محاولة فرض سلّة سياسية شاملة لمرحلة ما بعد الحرب، ولكيفية تطبيق القرار 1701، أو الملحق الذي سيضمن تطبيقه، ربطاً باتفاق حول إعادة تشكيل السلطة وتغيير التوازنات السياسية في الداخل، مع الإشارة إلى الضغط الإسرائيلي الذي يبلغ حدوداً بعيدة في رفض تطبيق القرار 1701 وفق الطريقة التي اعتمدت سابقاً، والمطالبة بنزع سلاح حزب الله. وذلك يترافق أيضاً مع دعوات دولية أو عربية أو حتى سياسية لبنانية داخلية تركز على وجوب إنهاء مسألة سلاح الحزب في مرحلة ما بعد الحرب، والإعلان الصريح عن رفض التعايش مع هذا السلاح.
يفرض ذلك تحديات كبيرة أمام لبنان، خصوصاً أن أي حلّ سياسي أو تسوية رئاسية لإعادة تشكيل السلطة ما بعد الحرب، سيكون مرتبطاً ببرنامج مكثّف من الشروط، خصوصاً حول مسألة إعادة الإعمار. إذ أن الدول المعنية بذلك ستفرض شروطها السياسية والاقتصادية والمالية. وهي شروط كلّها مؤجلة من سنوات سابقة ارتبط بعضها بما أطلق عليه "الإصلاحات السياسية والاقتصادية"، وإخراج لبنان من مسألة الدولة المقاتلة على الجبهة الأمامية، والعودة إلى الالتزام بمسارات "الجامعة العربية".
رهانات ماضية
من هنا أيضاً، فإن المفاوضات في أحد جوانبها تتركز على مسألة اليوم التالي للحرب لبنانياً، ومدى مقبولية واستجابة اللبنانيين للتعاون مع هذه القوى الدولية والعربية، خصوصاً أنه بالمعيار السياسي الدولي الحالي، لا تبدو القراءة متطابقة مع قراءة حزب الله الذي يراهن على الميدان ووقائعه وظروفه وإلحاق خسائر في صفوف الإسرائيليين، لتغيير المسار العسكري ودفع تل أبيب إلى التراجع والعودة إلى ما كان عليه الوضع ما قبل الحرب. بالنسبة إلى القوى الإقليمية والدولية، فليست الوقائع على الأرض هي التي ستغيّر المعادلة أو القرار كما يراهن حزب الله، بل اتفاقات وتقاطعات سياسية على مستوى دولي وإقليمي. تنظر هذه القوى الدولية إلى ما يجري على الساحة اللبنانية بأنه تظهير للحدث الأكبر، وهو الصراع الإيراني الإسرائيلي على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط. ما يعني أن الصراع الدائر في لبنان هو جزء من صراع أكبر وأعلى.
وفق هذا المسار، تتحرك الجهات الدولية والإقليمية في المفاوضات والضغوط. وقد عبّرت فرنسا أكثر من مرّة عن امتعاضها من السلوك الذي تنتهجه إيران في لبنان، واتهامها بأنها تقاتل باللبنانيين. يترافق ذلك مع ضغوط أخرى هدفها تطويق النفوذ الإيراني، في لبنان كما في سوريا.
التحرك الأردني
لبنانياً برز تحرك جديد للأردن من خلال زيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي قبل فترة إلى بيروت، بعدها جاءت زيارة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ومن ثم زيارة قائد الجيش جوزيف عون إلى عمان. كما يفترض أن تتجه شخصيات سياسية أخرى إلى الأردن لعقد لقاءات، وذلك يندرج في سياق استمزاج آراء القوى السياسية حول المرحلة السياسية التي تلي الحرب.
بدأ التحرك الأردني بعد سلسلة اجتماعات ولقاءات دولية وديبلوماسية. وفي هذا السياق، فإن ما يقوم به الأردن، يندرج في سياق التنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية، ودول أوروبية ودول عربية. يترافق ذلك مع المساعي الدولية والمفاوضات لوقف إطلاق النار وإنجاز الترتيبات اللازمة لوضع الجنوب وتطبيق القرار 1701، مع الاقتناع بأن هناك حاجة لمسار تفاوضي طويل للاتفاق على كل التفاصيل. وهو ما يبدو أنه سيكون مترافقاً مع مواصلة الحرب. في الموازاة تأتي الحركة الأردنية، التي تشبه إلى حدّ بعيد المبادرة الكويتية التي قّدمت سابقاً للمسؤولين اللبنانيين في العام 2022 والتي كانت تمثّل الدول العربية، وطرحت 10 شروط للخروج من الأزمة، وأبرزها تطبيق القرارات الدولية وحصر قرار الحرب والسلم بيد الدولة اللبنانية والعودة إلى الانسجام مع الدول العربية، وضبط الحدود والمعابر ووقف التهريب وإنجاز إصلاحات سياسية واقتصادية شاملة. حالياً، يتجدد النقاش في مثل هذه الشروط والبنود لمرحلة ما بعد الحرب.
يشبه التحرّك الأردني باتجاه لبنان والمنسق غربياً وعربياً، المسار الذي فتح سابقاً مع النظام السوري إثر إعادة سوريا إلى الجامعة العربية. حينها، تولى الأردن المفاوضات مع دمشق وبعدها بدأ مسار الانفتاح العربي الذي لم يستكمل بعد، وسط معلومات عن شروط كثيرة لم تلبها سوريا حتى الآن. ولكن كان لهذا الانخراط تأثير مباشر على تحييد سوريا عن معادلة وحدة الساحات، بالإضافة إلى التحضير لمسار جديد بين العرب ودمشق في المرحلة المقبلة. وهو أيضاً ما تسعى الدول إلى فرضه في لبنان.