Advertise here

هَوَس الأعداد

07 آب 2019 18:06:32

من آثار تحالفات الانتخابات النّيابيّة التي بُنِيت على ركائز هشّة من مصالح مؤقّتة ونوايا مُبيّتة ووعود واهية، برز مؤخّراً موضوع المناصفة بين المسيحيّين والمسلمين، ما فرمل عجلة الموازنة المستعجِلة وعلّق المادّة 80 منها ريثما يتمّ تفسير المادّة 95 من الدّستور، إلى أن استُدرك الأمر وتحرّرت الموازنة من القيود، ولا ننسى كم كانت ولادتها متعسّرة ومهدّدة بأن تولد ميتة. هكذا اُجّلَت هذه الدّفعة من المطالبات بالمناصفة من قبل النّاشطين على هذه الجبهات، لأنّها حاليّاً ممكن أن تنال من المسيحيّين الشّركاء في الوطن والذين نحبّ ونحترم، أكثر ممّا ينالون هم منها. 
اختلفت الآراء كثيراً حول أحقيّة ترجيح كفّة المناصفة بين المسلمين والمسيحيّين في جميع الفئات، على كفّة نتائج مجلس الخدمة التي تعتمد الكفاءة و"بِمن حضَر" أي الاختيار يكون من بين المتقدّمين النّاجحين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيّين. تعدّدت الموازين، لكنّ ميزان العدل عاد لينشغل بملفّ آخر أكثر ضغطة، وكانت مكاييله تُحَضّر من كلي فريقي النّزاع حوله، الاشتراكيّ والعونيّ. وكما طالعنا اليوم الخطيب الأوّل، كعادته، النّائب وائل أبو فاعور، فقد فضح كلّ المكاييل غير المشروعة من السكّين التي تُغرَز في الذاكرة الجريحة، إلى السكّين التي تُغرَز في القضاء المهدّد بفقدان نزاهته. أمّا مكاييل التّسجيلات التي استعملها فريق المقتول كما وصّفه الوزير أبو صعب أثناء جلسة الموازنة الأخيرة، لم يوصل هذا الفريق إلى نتيجة منشودة لأن المتّهمين ببثّ التّسجيلات التي تحذّر من زيارة باسيل إلى الجبل، تمّ الإفراج عنهم بعد التّحقيق معهم، لينقلب السّحر على السّاحر وتظهر تسجيلات من نوعٍ ثقيل من داتا الاتّصالات، تتّهم الوزيرين سليم جريصاتي والياس أبو صعب بتطويع القضاء مع رشوة تسليم ملف البساتين لأحد القضاة، ليرمي في الأخير وائل أبو فاعور الطّابة في ملعب رئيس الجمهوريّة المُطالب من قبل الاشتراكيّ بأخذ التّدابير اللّازمة لإنقاذ ولايته من الغرق في بحيرة صهره الحالمة. وإنّ غداً لناظره قريب.
 وبما أن ملفّ حادثة البساتين أشرف على النّهاية، ولن تُبكِيَ بعد اليوم هذه الحادثة إلّا عيون أمّهات سامر أبو فرج  ورامي سلمان وعسى أن يعود سامو غصن ليكون الشّهيد الحيّ الذي كان ذنبه الوحيد أنّه يعيش في بلدٍ ترخص فيه دماء الأبرياء مقابل حصول الآخرين على مآرب وهميّة رخيصة، وبعد الدّعاء بأن تكون هذه الحادثة الأخيرة في مسرحيّات استعمال السّلاح من قبل كلّ الفرقاء، لا بدّ من انتقال الفريق نفسه الذي أشعل البساتين إلى الجبهة الأخرى التي أشعلها في بساتين الموازنة لا سيّما المادّة 80 وما سوف تزرع هذه المادّة من بساتين جديدة بين موادّ الدّستور المتعلّقة بالعدديّة بين المسلمين والمسيحيّين. إنّ وفق إحصائيات المهتمّين بمصير الطّائفة المسيحيّة، ووفق الدّوليّة للمعلومات وغيرها، يتبيّن أنّ الحضور المسيحيّ في وظائف الدّولة يقلّ تدريجيّاً ويتلاشى. ويسأل هؤلاء هل هذا هو المطلوب بأن تصبح حصّة المسلم 80% وحصّة المسيحيّ بذمّة الأكثريّة؟ ويتخوّف آخرون من أن يتحول الوجود المسيحي في لبنان إلى مجرّد ديكور كما هو في مصر وسوريا والأردن والعراق. ومن وسائل الدّفاع التي يستعملها الغيارى على حقوق المسيحيّين أنهم يتغنّون بالقيمة المضافة التي يضفيها المسيحيّ على بقعة الأرض هذه من المشّرق هذا، ويبرّرون مطالبتهم بالمناصفة بالوظائف، فئات ثانية وثالثة، انطلاقاً من هذه القيمة المضافة، بالرّغم من أنّ المسيحيّين لا يكسبون في هكذا استحقاقات في حال طبّقنا قانون "العدّ". فالعدّ لا يصبُّ في صالحهم وها هم يناشدون المهاجرين للعودة وحتّى يسعَون لعودة المُبعدين كي يزيد عدد المسيحيّين في لبنان، ولم تطمئنهم مقولة الشّهيد رفيق الحريري "وقّفنا العدّ".   
في مقابل مطالبة المسيحيّين بالمناصفة بالوظائف، يأتي المنظّرون من المحاور العلمانيّة المواجهة ليقولوا للمسيحيّين أن الأوطان لا تُبنى إلّا بالإخاء وأي تركيبة تُبنى على منطق الطّوائف فهي لا تحقّق إلّا هدم هذا الوطن. ومن هنا يجد البعض الآخر، ممّن يريد المشاركة في النّقاش أيضاً، مدخلاً إلى انتقاد الطّائف الذي نحصد محاصيله اليوم كما يقولون، وإلى ضرورة إعادة النّظر في بنوده وزرع بساتين برتقال في مدينة الطّائف، لأنّ اتّفاق الطّائف تمّ تحت ظروف "مجبرٌ أخاك لا بطل" 
في الحقيقة، وفي ظلّ تاريخ الطّوائف الحافل في لبنان، والذي لا يمكنه أن يرتقي إلى مرتبة الوطن المدنيّ في ليلة وضحاها، لا يسع المرء أن يلوم المسيحيّين على تثبيت حقّهم كقيمة مضافة وليس وفق أعدادهم، فالمسيحيّون هم مَن ساهموا في صنع هذا اللّبنان ولا أحد في لبنان هو للدّيكور. لكن ما يسع المرء أن يطرحه على هذا القسم من المسيحيّين المطالِبين بوقف العدّ اليوم، والمطالِبين بالعدّ من يومين، أن يقفوا على موقف واحد. معنى ذلك هو أن يتكرّس منطق معيار "الحجم"  أو "الوزن" إذا صحّ التّعبير في كلّ الاستحقاقات ومع كلّ الطّوائف وفي كلّ الأوقات. فممنوعٌ على أحد أن يحجّم الآخر بعدد أفراد طائفته. يرى المرء أن المسيحيّ اليوم يشعر بما حاول الوزير جبران باسيل، مع تقديرنا لجهوده ونشاطاته التي لا تُعدّ، أن يُشعر الدّرزيّ به وقت الانتخابات النّيابيّة الأخيرة، فلم يوفّر حاسوباً أو عدّاداً من أجل تقليص عدد النّوّاب الذين ينتمون إلى بساتين زيتون وادي التّيم وسهول البقاع الغربيّ وجبال أرز الشّوف وتلال صنوبر عاليه. وأراد أن يستبدلهم جميعا بمرشّحين يشعلون كلّ هذه البساتين كما أشعلوها منذ شهر ونصف. أخذ الوزير الذي لا يكلّ ولا يملّ، يحسب بالأرقام عدد الدّروز وكم مقعدٍ تستحقّ أن تحصد كتلة اللّقاء الدّيمقراطي! وإحداهنّ وصفت الدّروز على شاشة التلفزيون بما لا مصلحة هنا من إعادةٍ لكلامها. أمّا ما من ذكره مصلحة هنا هو أن نذكّر هؤلاء الذين صرعونا بلغة الأرقام وقت الانتخابات، بأنّ الدّور وصل إليكم في لعبة العدّ، وما حاولتم فرضه على الدّروز حينها، ترفضون فرضه على أنفسكم اليوم! وهذا ليس بعدل. لعبة الأرقام ليست من صالح أحد في هذه الوطن. وكما حاولتم تحجيم الدّروز بأعدادهم، ها هو مجلس الخدمة يهزّ في طائفتكم الوتر الحسّاس الذي حاولتم العزف عليه في الانتخابات في مواجهة الحزب الاشتراكيّ. بعد أن اختبرتم الظّلم الذي يلحقه هوس الأعداد بأبناء الطّوائف، عسى أنه اليوم بات معلوماً ومفهوماً أن الأحجام والأوزان ليست بالأعداد بل بالفكر وفلسفة الدّفاع عن الأرض وبالثّقافة النيّرة وبالمحبّة والتآخي. وبالمناسبة يستحضرني اليوم ما أنقله في الأسفل من مقتطفٍ للوزير وائل أبو فاعور عن موضوع هوس الأعداد في زيارته لحاصبيّا قبيل الانتخابات البلديّة الأخيرة في 17-03-2017. 
"... يسألنا البعض مَن أنتم وما هو حجمكم؟ حجمنا هو حجم الطّلقة الأولى والرّصاصة الأولى التي أُطلقت في وجه العدوّ الاسرائيليّ في معارك التّحرير الأولى، يوم ذهب كمال بدر وعصام بدر الدّين وأمين وزير وتوفيق زويهد إلى ثكنة مرجعيون وتحدّوا الاسرائيليّ وقتلوا الاسرائيلي، هذا هو حجمنا. حجمنا هو حجم تحرير الخيام في العام 1977 عندما قامت ثلّةٌ من الحركة الوطنيّة اللّبنانيّة بتحرير الخيام من رجف ميليشيات العدوّ الصّهيونيّ، هذا هو حجمنا. تسألون عن حجمنا؟ حجمنا هو حجم الثّورة البيضاء في العام 1952، عندما وقف كمال جنبلاط وقال لهذا زل فزال ولذلك كن فكان، فكانت تلك الثّورة البيضاء النّاصعة في معترك الحياة السياسيّة اللّبنانيّة، حجمنا هو حجم ثورة العام 1958 التي سترون غداً في احتفال المختارة كيف سيقف وليد جنبلاط لتذكير البعض ممّن نسي من يكون هذا الحزب ومن يكون هذا الوليد جنبلاط. حجمنا؟ تسألون عن حجمنا؟ حجمنا حجم مشروع التّغيير الدّيمقراطيّ عام 1972، هذا هو حجمنا. أعطونا برنامج تغيير ديمقراطيّ في هذا الوطن، أفضل من برنامج الحركة الوطنيّة اللبنانية وحاجّونا في حجمنا. تسألون عن حجمنا؟ حجمنا حجم جبهة المقاومة الوطنيّة اللّبنانيّة، حجم الثّورة الفلسطينيّة، والثّائرين الذين استُقبلوا في هذه البيوت وفي هذه الأراضي على مقربةٍ من فلسطين. هذا هو حجمنا. حجمنا هو حجم صورة كمال جنبلاط التي تُرفع في المسجد الأقصى، حجمنا هو حجم صورة وليد جنبلاط التي تُرفع في فلسطين. حجمنا هو حجم الأغاني التي تُنشد اليوم في فلسطين وفي المسجد الأقصى لكمال جنبلاط. عندما تُنشَد وتُرفع صُوَركم في المسجد الأقصى، حاجّونا في حجمنا وفي حجمكم! .... حجمنا الدّفاع عن الفقراء والعروبة وهويّة هذا الوطن. حجمنا هو حجم المصالحة الكبرى في الجبل، عندما وقف وليد جنبلاط ووقف البطريرك صفير، وقف جبلان فوق قمّة جبل لكي يعلنا انتهاء المرحلة السّوداء من تاريخ اللّبنانيّين وكي يعقدا الصّلح بين اللّبنانيّين. هذه المصالحة التي فتحت السّجون وهذه المصالحة التي أعادت من كان في المنفى، وهذه المصالحة هي التي فتحت باب الشّراكة بين اللّبنانيّين. هذا هو حجمنا. تسألون عن حجمنا؟ حجمنا هو حجم بيان جبهة المقاومة الوطنيّة اللّبنانيّة الذي أطلقه الشّهيد جورج حاوي، والمناضل محسن ابراهيم من بيت كمال جنبلاط في وطى المصيطبة. هذا هو حجمنا، ولا يعني أنّنا ننجرّ إلى لعبة الأحجام. نهار الأحد نلتقي في المختارة ونلتقي اليوم هنا في حاصبيّا، في العرقوب، في مرجعيون، في وادي التّيم، نلتقي مع هؤلاء الأوفياء، نلتقي مع هؤلاء الشّرفاء، نلتقي مع هؤلاء النّاس الذين حملوا كمال جنبلاط في صدورهم وعقولهم وأحاسيسهم، لأربعين عاماً. هؤلاء الذين كتبوا يوم استشهد كمال جنبلاط تحت صورته: سيبقى فينا وينتصر..." 
هذا التّوصيف النّوعي وليس الكمّي لحجم ووزن الحزب التّقدّمي الاشتراكيّ كان قبل أن يعقد الوزير وائل أبوفاعور مؤتمره الصّحفي اليوم الذي استنفر له الإعلام وجميع الكتل النيابيّة وصولاً للقضاء، ولولا ذلك لكان أضاف آنذاك أبو فاعور إلى توصيف حجم حزبه قائلاً: "تسألون عن حجمنا؟ حجمنا هو حجم التصدّي المدوّي والبارق بالقرائن والدّلائل والإضاءات التي صعقت جميع الذين حرّضوا العباد وانتهكوا القضاء وعطّلوا مجلس الوزراء لينالوا منك يا وليد جنبلاط ومن الحزب، ولن ينالوا".