Advertise here

هذه مخاطر التخلي عن صفة "الحاكم الحكم"!

07 آب 2019 10:39:00 - آخر تحديث: 07 آب 2019 11:00:37

اناط الدستور اللبناني برئيس الجمهورية صفة "رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن" وأودعه مهمة  "السهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه". كما منحه الدستور وفق (المادة 53) منه (البند 1)، الحق بترأس "مجلس الوزراء عندما يشاء دون أن يشارك في التصويت" وذلك لتنزيهه عن أي انحياز قد تجره اليه الظروف الداخلية.

كما أعطاه المشرع اللبناني صفة "الحاكم الحكم"، من أجل أن يبقى جامعاً للمتناقضات حامياً للوحدة الوطنية وميثاق العيش المشترك، بعيدا ومنزها عن الخلافات والتباينات التي تحكم طبيعة المجتمعات المتنوعة، وقد أضاف أنصار العماد ميشال عون بعد انتخابه رئيساً للجمهورية "بحسن نية" صفة "بي الكل" تقديراً لعمره وتعبيراً عن التزامهم بتوجيهاته، واحترم معظم اللبنانيون هذه التسمية من باب "حسن النية" أيضاً والتزاماً وقبولا ولو على مضض، بالتسوية السياسية التي انهت الشغور الرئاسي الذي طال لسنوات ثلاث، بعد تعطيل مقصود وعن سابق تصور وتصميم لجلسات انتخاب رئيس الجمهورية، من قبل التيار الوطني الحر الذي كان يرأسه العماد ميشال عون وحلفائه.

لم يكن العماد ميشال عون في تاريخه المهني والسياسي محايداً ولا وسطياً، انما كان يجاهر بانحيازه السياسي المتطرف الى جانب فريق ضد فريق آخر، ولنا عليه وعلى تاريخه العسكري والمهني والسياسي الكثير من الملاحظات والمآخذ والمواقف، قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية ويقسم على الدستور وفق (المادة 50) ، على أنه "عندما يقبض رئيس الجمهورية على ازمة الحكم عليه ان يحلف امام البرلمان يمين الإخلاص للامة والدستور بالنص التالي: احلف بالله العظيم اني احترم دستور الامة اللبنانية وقوانينها واحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه".

وعلى هذا الأساس تعامل اللبنانيون مع العماد ميشال عون بصفته الجديدة متناسين مواقفه المتطرفة وسلوكياته العصبية ضد معارضيه، لا سيما في السنوات الأخيرة التي تلت عودته من منفاه الباريسي، فقبلت القوى السياسية لا سيما المعارضة لعون بالتسوية الرئاسية، واعتبرت ما تضمنه خطاب القسم الذي ادلى به أمام العالم بأنه بمثابة طي لصفحة الخلافات، لا سيما قوله "إن أول خطوة نحو الاستقرار المنشود هي في الاستقرار السياسي، وذلك لا يمكن أن يتأمن إلا باحترام الميثاق والدستور والقوانين من خلال الشراكة الوطنية التي هي جوهر نظامنا وفرادة كياننا". 

وقوله في الخطاب عينه "إن بلوغ الاستقرار الأمني لا يتم الا بتنسيق كامل بين المؤسسات الأمنية والقضاء، فالأمن والقضاء مرتبطان بمهمات متكاملة، ومن واجب الحكم تحريرهما من التبعية السياسية، كما عليه ضبط تجاوزاتهما فيطمئن المواطن الى الإداء، وتستعيد الدولة وقارها وهيبتها".

على الرغم من الهفوات والتدخلات التي شابت السنوات الثلاث الأولى من حكم الرئيس عون، والمآخذ العديدة التي تكونت حول أداء فريقه السياسي المنحاز لفئة سياسية ضد أخرى، وتحويل الرئاسة الأولى الى شبه مؤسسة عائلية، وإطلاق يد صهره ووريثه الشرعي للتيار البرتقالي وزير الخارجية جبران باسيل، الذي خاط قانون الانتخابات النيابية بما يناسبه، على الرغم من مخالفته بالشكل والمضمون لاتفاق الطائف ومقتضيات العيش المشترك، فإن القوى السياسية وعلى رأسها الحزب التقدمي الاشتراكي لم تتوقف أمام  تلك التجاوزات، حماية للاستقرار وحفاظا على نجاح العهد ومسيرته وحرصاً على التسوية التي أنهت الفراغ الرئاسي، سيما وأن الاقتصاد اللبناني بات على حافة الانهيار، ولطالما تلك التجاوزات بقيت تحت سقف الشعار اللبناني الشهير، "لا غالب ولا مغلوب".

إلا أن ما أوردته صحيفة النهار في عددها الصادر يوم الاثنين 5 آب 2019، من كلام وانطباعات ومعطيات نقلا عن زوار القصر الجمهوري، و(تأكيد الرئيس عون للمرة الأولى مباشرة ان "حادث قبرشمون كان "مكمناً أعد لجبران (باسيل) وليس لصالح الغريب")، وقوله وفق ما ورد في صحيفة النهار أيضاً (أن "حملة الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيسه على المحكمة العسكرية ليس لها من حيث المنطق ما يبررها إذا كان جنبلاط يريد فعلاً أن تظهر حقيقة ما حصل في قبرشمون". ويرفض عون "استمرار تضليل الرأي العام وحرف الأنظار عن جريمة قبرشمون"، قائلاً إن "ادعاء فبركة ملفات والضغط على القضاة والتحريف في التحقيق ممارسات ملتوية معروف من لديه سجلات حافلة فيها ومن كان يزوّر في القضاء ومن كان يضغط على قوى الامن، ومن يتدخل لحماية فاسدين، وبالأمس منع رفع الحصانة عن أحد الضباط الضالعين في الفساد". ويضيف: "فليستفسر جنبلاط عن قضاة المحكمة العسكرية قبل أن يطلق اتهاماته، لأنهم قضاة شرفاء وهم خير من يحترم الحقيقة الموجودة بين أيديهم، بالوقائع والقرائن والمستندات".) 

أن مثل هذا الكلام المنسوب الى رئيس الجمهورية، يشكل تحولاً خطيراً في مجرى الأحداث السياسية في لبنان وليس حادثت قبرشمون – البساتين فحسب، سيما وأنه تحولا في موقع رئيس البلاد من صفته كـ "حكم بين اللبنانيين" و"رمزا لوحدة البلاد"، إلى ناطق ومدافع عن فريق دون آخر، لا بل التهجم على فريق سياسي، شريك في التسوية الرئاسية، كما أن استباقه للتحقيقات القضائية وتسويقه لنظرية سياسية على أنها حدثا أمنيا يعتبر تدخلا في عمل الأجهزة الأمنية والقضائية لا بل توجيها للقضاء وللأجهزة الأمنية يخالف استقلالية القضاء وطبيعة النظام اللبناني، ما يشكل خرقا خطيرا للدستور القائم على مبدأ الفصل بين السلطات.

أن ما قاله رئيس الجمهورية أمام زواره، يضعه في خانة الطرف السياسي وليس الحكم، ويفقده صفة "بي الكل"، ويجرده من القدرة على حل النزاعات بين اللبنانيين، ويحول دون قدرته تبوء الموقع المفترض له ان يكون فيه راعيا للجميع، وحامياً للعيش المشترك، فاتهامه الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيسه فبركة الملفات، يضع رئيس الجمهورية في موقع الخصم السياسي مع الحزب، وبالتالي يعود العماد عون بنظر مناصري الحزب وأعضائه الى موقعه السابق كرئيس للتيار الوطني الحر، أو الى قائداً "للجيش الفئوي" اكما كان يطلق عليه في ذلك الحين من أيام الحرب الغابرة.

أن ما نقل عن زوار القصر الجمهوري من كلام لم ينفيه رئيس الجمهورية، يعري العهد ووزرائه ونوابه وحزبه وحلفائه من كل كلام قيل عن الإصلاح والشفافية والنزاهة واحترام الشراكة، ويضعه دون أدنى شك في خانة الخصم، ومستغل السلطة ومفبرك الملفات للنيل من الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيسه تنفيذا لأجندة خارجية باتت معروفة الأهداف، سيما وأن تلك الحملة التي بدأت بتقديم أوراق الاعتماد الى النظام السوري من خلال التحريض العنصري بوجه النازحين السوريين، واستكملت في التحريض على المصالحة الوطنية، ورفع الشعارات الطائفية واعادت عقارب الساعة الى الوراء، والتذكير بمحطات الحرب الأليمة التي طويت صفحتها، وبتغذية روح الانقسام في البيت الواحد بهدف خلط الأوراق واللعب بالتوازنات وفق متطلبات الصراع الإقليمي المشتعل في المنطقة.

إن انحياز العهد ورئيسه الى جانب فريق سياسي بوجه فريق سياسي آخر، تفقد العهد هيبته ومكانته، ولا تقلل من مكانة رئيس البلاد ومن هيبة الموقع الرئاسي فحسب، بل تضع البلاد على سكة التوتر والانقسام، وتحول الازمات صغيرة إلى أزمة حكم كبيرة، وتدفع بعناصر الدولة الى التحلل والتفكك والانهيار، حيث لا رقابة ولا إدارة بل نزاع سياسي وتجاذب بين القوى المختلفة التي تشكل أساس الجمهورية وأعمدتها.

إن التجارب العديدة منذ عام 1954، إلى العام 1975، الى أيام الحرب الأهلية، وصولاً الى عهد الرئيس إميل لحود، والتي وضع فيها العهد والرئاسة الأولى نفسيهما موضع الطرف السياسي لا الحَكَم، وكانا الى جانب فريق ضد فريق آخر، لم يحققا أي نتائج محمودة لا للرئاسة ولا للعهد ولا للبلاد، بل دفعا بالبلاد ومؤسساتها نحو التعطيل ونحو تعمق الازمات وتضاعف حدة الانقسام الطائفي والسياسي العمودي، لا بل لامست الخلافات حدود الصراعات والنزاعات المسلحة والحرب الأهلية، وتكبدت البلاد الخسائر التي أثقلت كاهل اللبنانيين وكاهل مؤسساتهم  الخاصة وأوقعت الدولة ومؤسساتها بالخسائر والترهل والانهيار، كما وأن تلك الصراعات كانت تنتهي بتسوية سياسية، بفعل جوارٍ داخلي او وساطة خارجية، وعلى قاعدة (لا غالب ولا مغلوب).

لبنان بلد التنوع والعيش المشترك لا يمكن لأي فريق إقصاء أو إلغاء أو محاصرة أي فريق آخر، فكيف إذا كان هذا الفريق بمكانة وموقع الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيسه وليد جنبلاط والمختارة بما تمثل من بعد إنساني وتقدمي وعربي..... قليلاً من التعقل أيها السادة واتعظوا.