لم يكُن المشهد الداخلي اللبناني يُوحي بأي تغيير في سياقاته عندما تسللّ إليه مجدّداً ملف رئاسة الجمهورية. فجأة سرّب الفرنسيون خبر زيارة المبعوث الرئاسي جان – إيف لودريان للرياض، ضمن حملة مصحوبة بإيحاء يتعمّد إظهار الزيارة وكأنها عملية تحضيرية إقليمية ودولية تدفع سريعاً في اتجاه إنهاء الفراغ، علماً أنه، حتى سفراء «الخماسية» أنفسهم لم يتحمّسوا لها، وجرى التعامل معها باعتبارها من خارج سياق الوقائع والأحداث. قالها القطريون صراحة، أمام سائليهم بأن لا معطى بين أيديهم. المصريون كذلك، برغم أن سفيرهم في لبنان علاء موسى طوّر من تحركاته باتجاه الأطراف الفاعلة، وكانت له زيارة غير معلنة لحزب الله، فاتحاً الملف الرئاسي من باب السؤال عمّا إذا كان الوقت قد حان لمعالجة الملف.
لكن ما هو واضح، أن الجانب الأميركي لا يبدو مهجوساً بالمشكلة اللبنانية إلا من زاوية ما يحصل على الحدود مع كيان الاحتلال. وكل ما يطرحه الأميركيون يصبّ في خدمة الهدف نفسه: كيف نوفّر الضمانات لتأمين عودة سكان المستعمرات الشمالية في الكيان. وهو ما يؤكد أن الحراك الرئاسي يبقى فكرة فرنسية، وقد اختارتها باريس في هذا التوقيت لاعتبارات عدة، لكنّ لودريان عادَ إليها خاليَ الوفاض، وهذه وقائعها:
قبلَ عملية «طوفان الأقصى» استماتت فرنسا للعودة إلى لبنان، كمستفيد أول من فترة الانهيار. لا مجيء رئيسها إيمانويل ماكرون كـ«فاتح» عهد الإصلاحات وإنقاذ اللبنانيين من منظومة الفساد أسعفه، ولا التهديد بالعقوبات فتح له الأبواب، كما لم تنفعه العودة إلى منطق التسويات والمعادلات. ولا تزال باريس حتّى اليوم، تطمح إلى أن تكون أحد الشركاء الرئيسيين في المشهد المقبل، ولا سيما في القطاعات المالية والاقتصادية (خاصة حاكمية المصرف المركزي). ويشعر الفرنسيون بأنهم في سباق مع الوقت، خاصة بسبب ظروفهم السياسية الداخلية الضاغطة من جهة، واستشعارهم بخطورة المرحلة الفاصلة عن موعد الانتخابات الأميركية، وهي الفترة التي ترتفع فيها نسبة خطر شن حرب إسرائيلية ضد لبنان.
في زيارته الأخيرة لبيروت (أيار الماضي) سأل لودريان رئيس مجلس النواب نبيه بري عن فكرة تكسّر الستاتيكو القائم في موضوع الرئاسة. أجابه بري: «كيف هي علاقتك بالسعوديين»؟ فأكّد لودريان أنها ممتازة. وهنا، اقترح عليه بري بأن «اذهب وتحدّث إليهم كي يتحدّثوا إلى أصدقائهم في الداخل ليقبلوا بفكرة الحوار».
من هذه الفكرة، انطلق لودريان للبدء بمشاوراته الجديدة. ظنّ السعوديون أن لديه شيئاً جديداً، لكنه خلال لقائه بالمستشار في الديوان الملكي نزار العلولا، بحضور السفير السعودي في بيروت وليد البخاري، لم ينقل سوى هذه الفكرة. بعيداً عن أيّ إضافات وتضخيم وخلق سيناريوهات وكلام منمّق حول إصرار الخارج على انتخاب رئيس للبنان واغتنام الفرصة لإخراج البلد من أزماته، فإن الملف الرئاسي لم يوضع على طاولة البحث الجدّي ولم يجد له صدى لا في الداخل ولا في الخارج، إذ يبدو الفراغ الرئاسي مناسباً للجميع. في الرياض، سمع لودريان إجابة واحدة على اقتراحه بأن تقوم المملكة بالتحدث إلى أصدقائها في لبنان فتقنعهم بتلبية دعوة بري إلى حوار باعتبار أنه المخرج الوحيد لانتخاب الرئيس، وهي أن «المملكة غير معنية بحوار وليتفق اللبنانيون على أي رئيس يريدونه»، بينما الموقف الحقيقي تكفّل رئيس «القوات» اللبنانية سمير جعجع بنقله حينَ ردّ على الدعوة بالرفض. وانتهت كل القصة هنا.
مسألة ثانية تشغل بال الفرنسيين، عنوانها الأبرز الحرب على لبنان. ما نُقل عن الأميركيين أخيراً من أن حاملات طائراتهم لن تبقى طويلاً في المتوسط، عزّز المخاوف الداخلية والخارجية من أن يسارع رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو إلى الاستفادة من وجودها لشن حرب. فحتى الآن، لا شيء سوى الاستعصاء يواجهه الجميع مع الرجل الذي يظهر نية لا تراجع عنها في استكمال معاركه في غزة والضفة في سبيل تهجير الفلسطينيين. وعلى ذمة مصادر دبلوماسية، فإن النية لفتح الجبهة مع الجنوب من خلال عمل تصعيدي وصلت أصداؤها إلى القوى الخارجية قبل أن يبدأ الترويج لها على لسان مسؤولين إسرائيليين، علماً أن من تصدّر الحملة هذه المرة كان نتنياهو نفسه، عندما أعلن أنه أصدر تعليمات إلى «الجيش وجميع قوات الأمن بالاستعداد لتغيير الوضع في الشمال»، ثم تبعه وزير حربه يوآف غالانت بقوله: «إننا مستعدّون لتحريك القوات من غزة إلى الشمال بسرعة».
وتشعر هذه القوى ومعها فرنسا بأن خطوط التوتر العالي على الجبهة مع لبنان تكاد تنفجر في موازاة التقارير الإسرائيلية التي تتحدّث عن توافق سياسي – أمني – عسكري في الداخل على وجوب إيجاد واقع جديد على الأرض عبر توسيع العمليات في اتجاه لبنان. وعلى الأرجح، أنّ هذا الأمر شكّل بالنسبة إلى الفرنسيين دافعاً إضافياً لتحريك ملف الرئاسة، إذ يسود اعتقاد لديهم بأن أي حرب كبيرة مع لبنان ستخرّب كل مخططاتهم السياسية والاقتصادية لأنها قد تخلق واقعاً في غير صالحهم. لكن للمرة المئة، باءت المحاولة الفرنسية بالفشل بسبب عدم التجاوب السعودي معها. الملف لم يخرج من دائرة المراوحة ليعود إليها، بل ويمكن الجزم بأن واقع الفراغ سيبقى على ما هو عليه أقلّه إلى نهاية العام الجاري.