بين كتابة التاريخ ونقد المصادر التاريخية فوارق عدة يدركها الراسخون في العلم التاريخي، ففي حين نرى أن الأولى تهتم بالوقائع والأحداث، تطلبها في مظانها، وتخضعها لآليات الكتابة التاريخية تجميعاً، ومقارنة واستقراء واستنتاجاً، حتى الوصول إلى ما يعتقد أنه الحقيقة التاريخية، نرى أن الثاني يهتم بالمصادر الكتابية وكيفية مقاربتها عملية الكتابة، ويميز بين الغث منها والسمين، في محاولة للوقوف على الموثوق منها الذي يبنى عليه.
من هذه الشرفة، نطل على كتاب "مسائل في أحوال الجنوب اللبناني – جبل عامل" للمؤرخ اللبناني منذر محمود جابر، الصادر عن مكتبة أنطوان (بيروت) وهو يشتمل على 15 بحثاً. وتختلف المادة الأولية المدروسة من بحث إلى آخر، وتراوح ما بين: المنطقة الجغرافية والجماعة البشرية والحركة الثقافية والحراك السياسي والظاهرة الاجتماعية والشخصية التاريخية والمصدر الكتابي وغيرها. وبذلك، نكون أمام مادة تاريخية متنوعة، تعكس تعدد الوظائف المختلفة التي ينهض بها المؤرخ، من جمع الوقائع وتمحيصها، رصد السيرة وكتابتها، تحقيق المدونات التاريخية، إلى نقد المصادر وتقييمها، وهو ما يفعله جابر في كتابه، وبكلمة عباس بيضون في تقديم الكتاب، يجمع جابر بين "كتابة التاريخ ونقد نماذجه"، ويجتمع في شخصه المؤرخ والناقد التاريخي. على أنه لا بد من الإشارة، في هذا السياق، إلى أن جابر مؤرخ جبل - عاملي، وأستاذ جامعي متقاعد وناشط ساسي سابق، وله عدد من المؤلفات في التاريخ والسيرة والتحقيق، تتمحور في معظمها حول الجنوب اللبناني، يراعي فيها مقتضيات الأمانة التاريخية، ومناهج البحث التاريخي، ويتوخى الحقيقة والموضوعية، مما جعله شاهد عدل على المدروس، ومرجع ثقة للدارسين.
يتوخى جابر "الحقيقة" في الكتب والمخطوطات والدوريات والمجلات والصحف، على المستوى الكتابي، ويتوخاها في المأثورات الشعبية والمحفوظات الشعرية والأقوال المأثورة، على المستوى الشفاهي. وهو لا يتورع عن نقد هذه المصادر، بنوعيها الكتابي والشفاهي، حين تدعو الحاجة.
في كتابة التاريخ، قد تكون المادة الأولية للبحث منطقة جغرافية (جبل عامل، الجنوب، الضاحية الجنوبية)، أو جماعة بشرية (الشيعة)، أو حركة ثقافية (الحياة الأدبية والفكرية، الانتداب اللغوي الفرنسي)، أو حراكاً سياسياً (السياسة الروسية)، أو ظاهرة اجتماعية (التهجير والنزوح)، أو جهة حكومية (حكومات العهد الفيصلي)، أو جهة دولية (القوات الدولية)، أو حدوداً دولية (خط الهدنة والخط الأزرق)، أو شخصية تاريخية (محسن الأمين، علي عبدالكريم الزين)، أو كتاباً تاريخياً (شيعة جبل عامل ونشوء الدولة اللبنانية)، وغيرها. وهكذا، تختلف مواد البحث من حيث طبيعة المادة المدروسة، وتتفق من حيث منهج الدرس.
الوضع والاقتباس
في نقد المصادر التاريخية، نقع على أحكام متفرقة في ثنايا الأبحاث المختلفة، سواء في المتون أو الهوامش، وهي أحكام يطلقها المؤرخ نفسه أو يقتبسها من غيره، ففي معرض إطلاق الأحكام، بعد مراجعة ما كتب في صلب التاريخ العاملي، يرى أن "محمد جابر آل صفا والشيخ محمد تقي الفقيه لم يقدما تاريخاً، وإنما نقلا ما يتواتره العامليون عن تاريخهم من حكايا فاكهة في السهرات أو ما تتناقله العائلات النافذة عن ماضيها أو ما تختلقه لها من مواض"، وأن "الشيخ علي الزين من جهته لم يتكفل بالأصل نسج تاريخ متكامل لجبل عامل، بل أمسك من التاريخ العاملي عقداً ملتبسة راح يفك رصدها أو أساطير متوارثة راح يدحضها..." (ص 25، 26).
وفي معرض الاقتباس من الغير، يقتبس من السيد محسن الأمين قوله في مؤلفات أعيان جبل عامل، "كانت مؤلفاتهم في التراجم على كثرتها ما طبع منها وما لم يطبع، لا يوجد بينها كتاب واف بالمرام، فمنها غير تام التأليف، ومنها غير واف بالمطلوب، ومنها ما هو شديد الاختصار، ومنها ما هو غير نقي بالعبارة مشتمل الترتيب، ومنها ما هو غير خاص بأهل عصر واحد" (ص 27). وهكذا، تعتور المصادر المنقودة أعطاب مختلفة، تراوح ما بين نقص تاريخيتها، وفك العقد المرصودة، ودحض الأساطير المتوارثة، وعدم الإيفاء بالمرام، ونقص التأليف، والاختصار الشديد، وعدم نقاء العبارة، وعدم التخصص بعصر واحد، وغيرها. وبذلك، لا يتبنى جابر ما يرد في المصادر على عواهنه، فغالباً ما يبدأ البحث بمقدمة مختصرة، يليها عرض موثق للوقائع والأحداث، موشح بالمقتبسات النثرية والشعرية، محيل على المصادر والمراجع، وينتهي بالنتائج التي توصل إليها.
الحركة الثقافية
وإذا كان المقام لا يتسع لرصد هذه الآليات في البحوث المختلفة، فحسبنا رصدها في أحدها، على سبيل المثال لا الحصر، ففي بحثه المعنون بـ"الحياة الفكرية والأدبية في جبل عامل حتى الاستقلال"، يمهد جابر للبحث بمقدمة تاريخية يربط فيها بين عاملية الحركة وشيعية الجبل، بدءاً من أواسط القرن الرابع الهجري، مروراً بالقرن الخامس الهجري، وانتهاء باكتساب الجبل الهوية اللبنانية، إثر مخاض عسير، استمر من إعلان دولة لبنان الكبير في عام 1920 حتى إعلان الاستقلال في عام 1943، ثم يعرض أولاً سمات الحركة الفكرية والأدبية في جبل عامل متوقفاً عند: غزارة الإنتاج، عدم طباعة معظمه، كتابة بعضه بغير العربية، ارتباطه بالحراك السياسي والاجتماعي، تعالقه مع الاتجاهات الدينية، انتظام العلماء في علاقات قربى، تزامنه مع حركة مدرسية، ونموه في كنف الدوريات لا سيما مجلة "العرفان". ويعرض ثانياً مظاهر من الحركة متوقفاً عند الفقه والكتابة التاريخية والنشاط الأدبي، فيشير إلى التجديد الفقهي في إطار الاجتهاد، وإلى تأثر الكتابة التاريخية الطائفية بالتجربة المارونية، على المستوى التقني، وإلى كلاسيكية الشعر العاملي ووطنيته، ثم ينهي البحث بتقييم التمظهرات المختلفة للحركة في الحقول المعرفية الآنفة الذكر. وهذه المنهجية تنسحب على سائر البحوث.